لا يتبع الفنان التشكيلي فهد خليف طقوساً محددة، أو عادات بعينها يعتمد تكرارها عندما يكون في مرسمه الواقع في الدور الخامس من إحدى العمارات الشاهقة في مدينة جدة. غير أنه، بعد الفجر، يحلو له الجلوس أمام حامل اللوحات الذي غالباً ما تكون عليه لوحة قيد التنفيذ.
يتسم مرسمه بأناقة لافتة، خاصة إذا ما قورن بالصورة النمطية عن مراسم الفنانين، بسبب تصميمه الداخلي وتنسيق مفروشاته وتوزّع اللوحات فيه، وهذا ما يمنحه تلك الدفعة القوية للعمل يومياً لما يقارب ست ساعات متواصلة.
يقول فهد خليف: "أشعر بطاقة عالية عندما أدخل مرسمي، فهو جزء منفصل عن الشقة التي أسكن فيها مع زوجتي وبناتي الأربع وابني الوحيد. هذه العزلة مهمة بالنسبة لي وتجعلني أعمل بلا كلل. ففي أيام الإجازات، أبقى منذ ساعات الصباح الأولى حتى قرابة العصر وأنا أعمل بشكل متواصل. وحامل اللوحات هذا، صممته بنفسي، بحيث يتيح لي الوقوف أو الجلوس على الكرسي أو حتى الجلوس أرضاً أمام اللوحة التي أشتغل عليها. فهو مزوَّد بعجلات ليساعدني في تحريك اللوحة بينما أبقى في مكاني بين ألواني وفرشاتي".
توليفة فريدة لأسلوب خاص
في مدينة جدة تشكَّلت رؤيته الفنية، ومنها انطلق باهتماماته وأعماله التي اتخذت طابعاً خاصاً منذ أربعة وعشرين عاماً، ولا يزال مستمراً في مشواره، متخذاً الفن "الرمزي التعبيري"، مع توليفة من أساليب سريالية وتكعيبية، منهجاً يعبّر به عما يجول في مخيلته الفنية الغزيرة من مشاعر وأحاسيس، أو عواطف وحالات ذهنية تثيرها المشاهدات البصرية، أو حتى الأحداث العامة المؤثرة، مبتعداً كل البعد عن محاكاة تجارب الآخرين.
فمنذ ما قبل التحاق خليف ببيت الفنانين التشكيليين بجدة، الذي يضم نخبة من أجيال مختلفة اشتهروا بتقديم حراك فني وثقافي متميِّز، كان هذا الفنان مهتماً بجماليات التراث العربي المتمثل في الخيل والزخرفة والحرفيات، وكذلك استرعى انتباهه المعمار الشعبي في مدينة الباحة، وإبداعات النقوش والزخارف التي يصنعها أبناء منطقة عسير بحس فطري وبحرفة عالية، فانشغل أيضاً بفن "القَط العسيري" الذي نجده في جدران البيوت العسيرية من الداخل، وكرَّس له جانباً من أعماله. ويعبّر عن افتتانه بهذا الفن بقوله: "هو فن فطري مذهل، سرق انتباهي لسنوات طويلة، وفي عام 2015م، خصصت معرضاً بعنوان "نقش ورقش" ضم 36 لوحة تستنطق هذا الفن البديع".
في البدء كانت الخيل تتنفس حرية
استدعى خليف الحصان العربي جسداً ومكانة، ورسمه برقبة مقوسة في معظم الأحيان، في تعبير رمزي. وعندما رسمه كحصان لعبة الشطرنج، منحه مسحة سريالية، وحينما صبغه باللون الأبيض جعله المُعبِّر عن الحرية المنشودة، خصوصاً إذا ما حطت بقربه حمامة بيضاء برمزيتها الجلية للسلام.
في توليفات أخرى استعان بجسم الحصان، حيث يمكن أن يوحي بالبطولة والفروسية المهزومة، وبالتالي الرجولة المنكسرة، إذ يصوِّر جسده مرتخياً، مقوّس الظهر، مطأطئ الرأس، فيبدو الإحباط مخيماً على العمل، مستعيناً في ذلك بمخزون الذاكرة المشتركة للخيل مع الإنسان. إلا أنه في نهاية الأمر وكما يقول: "أترك مهمة تأويل رمزية الخيل أو الطائر للمتلقي وحده".
حوار البيئة العمرانية ذات المنظورين
"لقد تمتع نظري بالحراك الفني الفطري الشعبي في الباحة، وكان له تأثيره الأعمق بداخلي" يقول الفنان عن تلك البيئة الشعبية التي نشأ فيها، وكانت لها بصمة واضحة في بلورة رؤيته البصرية الجمالية، منذ طفولته في قرية "المكارمة" بمحافظة "بلجرشي"، التي ولد فيهاعام 1975م.
وتركَّزت تلك الرؤية البصرية في المكون العمراني والبيئي لمدينتي الباحة وجدة، فأنتجت مخيلة استوحت عناصرها من هاتين البيئتين، ليظهر في لوحاته امتزاج مفردات العمران في كليهما، مثل واجهات البيوت وأسطحها، وزرقة البحر، والقوارب والنخيل والأشجار والأسماك. وهذا ما عبَّر عنه في مجموعة أعماله بمعرضه الشخصي الثامن عشر، الذي أقامه في ديسمبر 2018م بأتيليه جدة، بعنوان: "حوار"، وهو كما يقول: "حوار بين بيئتين معماريتين لمنطقة الباحة ومدينة جدة، مروراً بمكة المكرمة، وفق منظورين متجاورين أحدهما أفقي يعكس واجهات البيوت: الأبواب والنوافذ والأشجار والنخيل، والقوارب والسنابيك، والآخر من زاوية علوية مائلة، حيث تبدو أسطح البيوت و"المناور" التي يدخل منها ضوء الشمس والهواء إلى جوف البيت".
غير أن أهم ما يميِّز هذه اللوحات "الحوارية"، كما يطلق عليها، أن تكوينها وتباين ألوانها قابلة للامتداد طولاً وعرضاً. ويعبّر خليف عن ذلك فيقول: "هذه الأعمال قابلة لتمديدها مهما كانت قياسات اللوحة، وقد تصبح اللوحة الصغيرة جدارية كبيرة، سواء طولية أو عرضية، إذ يمكن للعناصر أن تتكرَّر بشكل واسع من دون أن يشعر الناظر إليها بأنها مملة بصرياً أو موضوعياً".
زخرفة المكملات الخشبية
في مرحلة سابقة، تركَّزت أعماله على استلهام المشغولات الزخرفية في العناصر الخشبية بالعمارة الشعبية: الأبواب والشبابيك والمرزع (العمود الدائم)، وبفن القط أيضاً. ولكنها اتخذت طابعاً خاصاً تحاكي فيه تفاصيل أخرى من التراث العربي والإسلامي، مستقاة من الزخارف وتشكيلات الحروف العربية ومآذن المساجد، ما يشير إلى نزعة روحية أصيلة مستقرة في وجدانه، تتضح بشكل خاص في رسمه دائماً الكعبة المشرَّفة بحالة من الوجد، تحيط بها موتيفات جمالية تهتف بقداستها.
ولذلك يبدو المشهد الزخرفي في أعماله ذا نسيج بصري بتداخلات تجريدية متقنة لزخارف نباتية وهندسية وكتابية ذات بُعد تاريخي. وتعتمد هذه الزخارف على الخطوط والتشكيلات الهندسية في علاقات لها دلالاتها الحية بتفاصيل المكان.
وتنطلق هذه الزخارف من النقطة والخطوط الأفقية والرأسية والمنحنية والمنكسرة إلى الأشكال المثلثة والمربعة والدائرية، فيحيك من خلالها زخارف متمثلة في أحزمة لونية زاخرة بالتنوُّع الخطي، لتبدو أحياناً بصمات متكرِّرة وممتدة، تتجاور وتتدفق ألوانها المتقاطعة والمتوازية، فتخلق معادلات متجدِّدة تضفي كثيراً من الحركة على العناصر الساكنة.
الوجوه والأشخاص
إلى جانب هذا وذاك، استحضر فهد خليف الوجوه المتزاحمة التي تتقاسم الملامح الجامدة والمتشابهة برؤوس مثقلة، مجرَّدة من تعبير مباشر، تظهر على هاماتهم سلال التفاح والبرتقال والأجاص؛ فيما يحط الطائر (حمام أو يمام) على أجساد شخصيات أخرى مبهمة، سواء على أذرعهم أو أياديهم، فيما يتخذ اللون مكانه وطاقته، ليحدِّد منطوق التكوينات المختلفة تارة على مستوى السطح الأول، وتارات على مستويات متدرِّجة نحو المستوى الثاني والثالث.. إنها عملية تحريك البصر للمتلقي من العميق إلى الأعمق، وهذه المستويات تحركها تقاطعات خطية عرضية أو طولية تكسر اعتياديتها، وتخلق ما بينها لغة إيقاعية تزيد من حيوية العمل.
الكراسي هي الأماكن
ورسم فهد خليف الكرسي باعتباره رمزاً للمكان والمكانة، وثّمَّة لوحات تضج بالكراسي؛ كراسي في المقاهي، كراسي ملتفة حول طاولات الشاي، كراسي تنتظر من يجلس عليها، وكراسي ودعت من جلس عليها. هي الأماكن التي يختارها الإنسان ليجلس فيها، وهي المكانة التي تمنحه إياها الحياة ومقدرات الزمن، كما يصفها مبدعها. إنها لغة عالية الرمزية وأصيلة، يتأملها المشاهد ولا يملها.
اللون وطاقته التعبيرية والجمالية
تظهر عند خليف فضاءات الحياة بثراء لوني متوازن. ففي كل لوحة ثّمَّة تجانس هارموني ما بين الألوان الأساسية والفرعية، وكذلك بين الحارة والباردة. فيندمج الرمادي القاني مع الترابي البارد، والبرتقالي الخافت مع الرمادي الفاتح، وتارة تنسال الألوان المعالجة والممزوجة في مناخات حالمة يذوب فيها اللون الأزرق السماوي مع الأزرق البحري الباهت أو الداكن، فيتدفق بطاقة باعثة على الإبحار في اللوحة، وعندما يبث اللون الأخضر كنوع من البهجة البصرية، نجد نشوة حميمة تدب في الحياة المتخيلة في سردية اللوحة، لا بد من أن تنعكس على مشاعر المتلقي.
وتلتقي أطيافه اللونية بحروف ومنمنمات عربية بمساحيق مذهبة لها بريقها اللافت، بحيث تتناغم في اتصالها مع بعضها بعضاً بخط الثلث، وفق انحناءات ترسم مسارات بصرية. فدلالات الحروف الصوتية وطاقاتها التعبيرية ما هي إلا مخزون لعلاقات حسية تختزل المشاعر الإنسانية. وما تطعيم الأعمال التشكيلية بالحرف العربي إلا نوع من التعبير عن الانتماء إلى الهوية العربية التي تمنحها روحها الخاصة.
وهكذا، فإن هذا الثراء اللوني في أعماله غالباً ما يأتي مكملاً للأفكار والرؤى التي يطرحها، والتي يحرص الفنان على إظهارها بتشكيلات لونية متدفقة.
دلالات رموزه
لكن للرموز عند فهد خليف قصة أخرى، فهي تتمثل في الخيل المقوسة الرقاب، الطير الساكن تارة والطير الطائر تارة أخرى، الأسماك إما بأجسامها كاملة وإما بهيكلها العظمي، البرتقال، الإجاص، المزهريات، القصعة، أوراق الشجر، الحروف العربية، وهنا نتوقف لنكتشف أن تطعيم لوحاته بجماليات الحرف العربي وإدخاله كعنصر في أعماله التشكيلية يبتعد كلياً عن إطاره النمطي المتمثل في لوحات الخط العربي التي ينفذها الخطاطون عادة.. إذاً في هذه الرموز قيم إبداعية ودلالية، ولا شك في ذلك. قد يستغلق بعضها أو جلّها عن المعنى المباشر، ولكنها تفتح مخيلة المشاهد على عوالم تأويلية تتأرجح بين سريالية التوظيف وواقعية الطرح، وهي بالضرورة تتقاطع مع الموضوع الأساسي للعمل.
من جهة ثانية، نجد أن رموزه هذه لا تأخذ وضعيات متباينة في فضاء اللوحة بشكل عفوي، وإنما يشعر المتأمل فيها أنها جاءت في عمق معيَّن وبُعد محدَّد وحجم مقصود، لتؤدي دوراً محدَّداً لها ضمن القصة التي تحكيها اللوحة. لا سيما وأن أعماله تتسم بتعدّد الأبعاد، وتعدّد المناظير، وبالتالي يكون لحضور هذه الرموز هنا أو هناك، معناه الجدلي المقصود.. نصادف الكرسي والخيل والمرأة إلى جانب الوجه المجرد من الملامح، وبعض الرموز الخطية والحلزونية، وكلها تستدعي عين المشاهد لتقول له: أنا هنا، انظر وتأمَّل.
الحالة النفسية وممارسة العمل
يقول فهد خليف: "كثيراً ما أجادل الزملاء حول الحالات النفسية التي قد تسيطر على الفنان وتضعه في قالب مزاجي معيَّن، وأنا ضد هذه الأفكار والسلوكيات المحبطة والمقيدة، وأرى أنه ينبغي للفنان أن يتحكم بكل الظروف النفسية والمزاجية التي تجمد طاقاته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أعتقد أن هناك عوامل تؤثر في ديناميكية عمل الفنان، بعد إلغاء الحالة النفسية طبعاً، هذه العوامل يمكن إجمالها في: الوقت، والمكـان، والجهــد، وربما الإمكانـات المادية التي تتيح له امتلاك أدواته وتهيئ له مرسمه وعمله".
ويضيف: "هناك فنانون زملاء أقدِّرهم كثيراً، ولكنهم انزووا وتقوقعوا على أنفسهم بسبب تأثيرات فكرية سيطرت عليهم. ولهذا أرى أنه لا بد للفنان من أن يتحكم بذاته، ويُخلِص لأفكاره الفنية، ويعمل بكل حيوية تحت وطأة الظروف النفسية والفكرية والاجتماعية، وهذا الأمر يتطلب مراناً وقوة على المجابهة، ليكون فناناً فاعلاً ومنتصراً ومعطياً".
سيرة مختصرة
•حاصل على ماجستير فنون من جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1421ه
•أنجز 18 معرضاً شخصياً
•مجموعة من المعارض الثنائية والثلاثية
•مجموعة كبيرة من المشاركات الجماعية
•حاصل على كثير من الجوائز
•له 3 لوحات بأهم متاحف روسيا بناءً على طلب وزيرة الثقافة الروسية
•حاصل على أفضل عمل لعام 2012م من المجلس الثقافي البريطاني
•مجموعـة من الأعمــال بالمنشـآت الحكوميــة والمستشفيات والفنادق
•له جدارية كبيرة في مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة وجدارية بمدينة الملك عبدالله الرياضية بجدة (ملعب الجوهرة)
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية
- المقالات
- حوارات