تتعمد الكثير من وسائل الإعلام اليمنية تزييف وقلب الحقائق أو نشر جزء من الحقيقة، وتغييب الجزء الآخر بطريقة منحازة، ما جعلها مثالا لـ”صحافة الصراع” التي ترجح دفة الحرب على السلام، وهو أمر ليس خافيا على الجمهور اليمني الذي لم يعد يثق بإعلامه المحلي.
صنعاء - وقعت المؤسسات الإعلامية والصحافيون في اليمن فريسة للانحياز بأشكاله وأنماطه المختلفة، وغالبا ما تكون التغطيات الصحافية انعكاسا لمواقف شخصية وتوجهات سياسية، ويجري تناول الأخبار من زاوية واحدة لا ثانية لها في مختلف وسائل الإعلام اليمنية.
ويأتي الانحياز الواضح وضعف الموضوعية كنتيجة طبيعية لسنوات النزاع في اليمن، إذ أفرزت الحرب “صحافة صراع” التي تتجاهل المعايير المهنية والأخلاقية للإعلام وتحاول التأثير على الجمهور بصب الزيت على النار فزادت من حدة الاستقطاب السياسي.
وتعمدت هذه المنابر إرباك المشاهد بدلاً من توضيح طبيعة الصراع. حيث تعمل البرامج والأخبار في القنوات اليمنية على جعل الصراع “مبهما وغير واضح”، من خلال وضع المشاهد أمام عدد من مشاهد النزاع القائم دون تبيين حقيقته وإبراز الأسباب التي أدت إليه والأطراف الفاعلة والمؤثرة التي تعمل على استمراره.
وخلصت دراسة حديثة لمشروع “منصتي 30” بالتعاون مع اليونسكو وبتمويل من صندوق الأمم المتحدة لبناء السلام حول “وضع الصحافة في اليمن”، إلى أن 72 في المئة من المشاركين في الدراسة يرون أن وسائل الإعلام دعمت أو أججت النزاع، وهي نسبة كبيرة تشير إلى النظرة السلبية التي ينظر بها الشباب اليمني إلى وسائل الإعلام.
ويرى 10 في المئة فقط من المشاركين أن وسائل الإعلام محايدة في النزاع الحالي، فيما اعتبر 12 في المئة فقط أنه كان لهذه الوسائل دور إيجابي في محاولة إنهاء النزاع.
بالتوازي مع الـ72 في المئة الذين يتهمون وسائل الإعلام بتأجيج النزاع، يقول 72 في المئة أيضاً إنهم لا يثقون بالصحافة المحلية، بمقابل 13 في المئة فقط يؤكدون ذلك النوع من الثقة.
ورغم هذه النظرة تجاه وسائل الإعلام عموماً، فإن أكثر من نصف المشاركين في الدراسة يرون أن “مساحة التعبير ونقل الأخبار بحرية تكاد تكون منعدمة” في الصحافة اليمنية بنسبة 54 في المئة، بينما 7 في المئة فقط يقولون إن هناك مساحة للتعبير ونقل الأخبار بحرية مطلقة، ويرى 38 في المئة أن هناك مساحة محدودة.
وتأثرت الآراء بحسب المناطق الجغرافية، فأكثرية الذين يميلون إلى القول بانعدام الحرية، هم في محافظات إب والحديدة وصنعاء وهي محافظات شمالية، بينما تقل النسب قليلاً بين المشاركين من محافظات أخرى مثل، حضرموت وعدن وهي محافظات جنوبية، بينما تراوح محافظة تعز في المنتصف كما هو موقعها الجغرافي وسط اليمن.
واعتبر صالح البيضاني مراسل “العرب” في اليمن، أن الصحافة تمر بواحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق في ظل الحرب في اليمن، بعد أن شهدت فترة من الحرية النسبية والازدهار في ظل التعددية السياسية والحزبية بعد عام 1990.
وقال البيضاني إن “تحول الصراع السياسي إلى حالة حرب مزمنة بعد مارس 2015 قلب المشهد الصحافي اليمني رأسا على عقب، نتيجة تغير قواعد الصراع على أيدي الميليشيات الحوثية، التي شرعت في إغلاق الصحف واعتقال الصحافيين، وفرض رقابة غير مسبوقة ضيقت من هامش الحرية إلى أدنى درجاته”.
ومع تصاعد حدة العنف في المشهد اليمني، أصبح العاملون في مجال الصحافة الحلقة الأشد ضعفا، حيث أصبح الصحافي هدفا لكل الأطراف المتحاربة، التي باتت تضيق ذرعا بالكلمة وتخشى أصحاب الأقلام، الأمر الذي جعل اليمن في صدارة الدول الأكثر خطرا للعمل الصحافي مع ارتفاع أعداد القتلى والمعتقلين والمخفيين قسرا. وأضاف البيضاني “إلى جانب حالة القمع الممنهجة التي تعرض لها الصحافيون، توقفت معظم الصحف، وخسر الكثير من الصحافيين أعمالهم وتحولوا إلى مهن أخرى في الغالب لا تتناسب مع قدراتهم المهنية، كما دفع الصراع والاستقطابات السياسية في الحقل الصحافي، العديد من الصحافيين إما للصمت وإما الكتابة بعكس قناعاتهم المهنية”.
وأشارت الدراسة إلى أن الاستقطاب الفئوي في صدارة العوامل المؤثرة سلباً على دور الصحافة والإعلام في اليمن، بنسبة 74 في المئة ثم الترهيب والانتهاكات بنسبة 67 في المئة، يليهما المال السياسي بـ65 في المئة. ولم تكن هناك فروقات جغرافية كبيرة في آراء المشاركين بالنسبة لهذه العوامل، كما أن البعض أشار إلى عوامل أخرى، مثل: الارتزاق والتأثير الشعبي وضعف أو انعدام الكفاءة، وغيرها.
وتسعى الأطراف المنخرطة في الصراع إلى توظيف إعلامها لخدمة سياساتها الخاصة، والمساهمة في تشكيل رأي عام يسمح بتمرير خططها وأهدافها، واستقطاب مؤيدين لتوجهاتها العسكرية والسياسية. وفي إطار كل طرف، ظهرت وسائل إعلام بأجندة تعتمد على التمويل المالي الذي تحصل عليه هذه الوسيلة أو تلك، والبعض منها يتبع أطرافاً وجهات محلية، وأخرى تتبع أطرافا خارجية.
وكنتيجة مباشرة لانحياز الإعلام، يحصل الجمهور على صورة مشوشة عن الحرب. فكل طرف في التغطية الإعلامية يركز على اعتداءات الطرف الآخر، ويقوم بتضخيمها بهدف تقديم الآخر بوصفه المعتدي وتقديم نفسه في صورة الضحية.
كما أن هناك شبه إجماع بين المشاركين في الدراسة على العوامل المؤثرة على أداء الصحافيين، فأيد 85 في المئة من المشاركين القول بأن “تهديد الصحافيين اليمنيين يمنعهم من نقل الحقيقة”.
ويعد اليمن واحدا من أسوأ بلدان العالم في حرية الصحافة؛ حيث قتل 38 صحافيا منذ بداية الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات وحتى منتصف العام الجاري، وفق تقرير سابق لنقابة الصحافيين اليمنيين.
وحث المبعوث الأممي مارتن غريفيث، الخميس، أطراف النزاع في اليمن على احترام حرية الصحافة.
وقال غريفيث مخاطبا صحافيين يمنيين خلال ندوة نظمتها البعثة الأوروبية في اليمن، بالاشتراك مع الوكالة الفرنسية لتطوير وسائل الإعلام (CFI)، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان الذي يوافق 10 ديسمبر من كل عام “لن يكون هذا المستقبل ممكنا دونكم، ولا دون مجتمع مدني مستقل وإعلام حر”.
وأضاف “لا زلت قلقا للغاية إزاء انكماش هامش حرية الإعلام، والتهديدات التي يواجهها الصحافيون في ما يخص سلامتهم من الاعتقال وأحكام الإعدام والاغتيال، وسأستمر في حث الأطراف على احترام حرية الصحافة”.
وبحسب الدراسة فإن الصحافي اليمني يتحمل جزءا من المسؤولية “بتقديم الولاء الحزبي على المهني”، وفق 79 في المئة من الآراء، وقال 82 في المئة إن الصحافيين ونشطاء الإعلام اليمنيين، يفتقرون إلى التأهيل الكافي في صحافة السلام.
ويتمثل انحياز الصحافيين بعدة جوانب، فهناك انحياز لمصادر معينة يستقي منها الصحافي معلوماته وأخباره ولا يتجاوزها لغيرها!، إلى جانب الانحياز لاستخدام مصطلحات محددة وأوصاف غير مهنية مثل “شهيد” و“داعشي” و“متمرد” و“انقلابي”، وكذلك الانحياز في اختيار قصص محددة تخدم توجها وأفكارا معينة، وتقديم الرأي كخبر بشكل مقصود وموجه.
وتتعمد الكثير من القنوات التلفزيونية تزييف وقلب الحقائق أو نشر جزء من الحقيقة، وتغييب الجزء الآخر، بهدف الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.
ويتذرع القائمون على القنوات الفضائية بعدم استضافة وجهات نظر مختلفة خلال البرامج التلفزيونية، برفض الطرفين الحديث في ظل وجود الطرف الآخر!، في حين أن الكثيرين من أطياف مختلفة ومتصارعة يقبلون بالظهور في قنوات عربية ودولية أخرى. ما يشير إلى أن المشكلة تكمن في طريقة العمل في القنوات التلفزيونية اليمنية، وليس في الضيوف وأصحاب الآراء المتضادة.
كما أن القصص الإنسانية التي تحكي معاناة المواطنين اليمنيين جراء تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية؛ يطويها النسيان والتجاهل، إذ تطغى أخبار المواجهات العسكرية والعنف على وسائل الإعلام، ويموت الفقراء دون أن يلتفت إليهم أحد.
وأظهرت نتائج دراسة سابقة صادرة عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي اليمني، ورصدت 481 برنامجاً لعشر قنوات شملتها الدراسة، أن أكثر من نصف البرامج والأخبار المرصودة يتم تقديمها بشكل متحيز وغير محايد، وأوضحت النتائج أن “54.9 في المئة من البرامج التلفزيونية تقوم بتغطية أخبار طرف واحد من أطراف النزاع في اليمن، ومحاولة تغطية أخبار الطرف الآخر؛ ولكن بطريقة مناوئة بهدف التشويه ورسم صورة سلبية عنه”.
وقالت الدراسة إن 70 في المئة من البرامج والأخبار في القنوات اليمنية تتحدث عن المعارك العسكرية فقط مع إغفال الحديث عن السلام أو مبادرات السلام. وتوصلت الدراسة إلى أن 63.9 في المئة من البرامج المرصودة “هيمنت عليها لغة تحريضية ونبرة مثيرة لإضفاء صفة عاطفية على موضوع القصة دون الحاجة إلى ذلك، وذلك بهدف تأجيج حدة الصراع واستمالة مشاعر الجماهير تجاه الطرف الآخر”.
ويقول متابعون إنه يمكن تجاوز هذا الإشكالية في القنوات اليمنية من خلال البدء في التركيز على الأنشطة والفعاليات التي تدعو إلى التسامح والسلام وتخصيص برامج للأنشطة التي تدعو إلى وقف الحرب وإحلال السلام الدائم في اليمن. كما يمكن للقنوات أيضاً مناقشة تجارب دول أخرى عاشت نفس التجربة اليمنية وعرض كيف استطاعت تلك الدول تجاوز المحنة والخروج من الحرب إلى السلام.
- المقالات
- حوارات