
في مشهد يعيد رسم ملامح الانهيار الممنهج لمؤسسات الدولة في محافظة تعز، انفجرت شوارع المدينة الواقعة جنوب غربي البلاد، اليوم السبت، بموجة غضب عارمة وهتافات حاشدة تنديداً بجريمة اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين، الأستاذة إفتهان المشهري، والتي ازهقت روحها بدم بارد يوم الخميس الماضي تحت نيران مكثفة أطلقتها أيدي غادرة توارت خلف زجاج سيارتها، لتسقطها شهيدة في جولة سنان بمديرية القاهرة وسط مدينة تعز، بينما كانت تحمل في قلبها حب مدينتها التي خدمتها بصدق منذ توليها إدارة الصندوق قبل عام واستطاعت خلال فترة وجيزة تقليم اظافر الفساد المعشعش في الصندوق ورفعت الإيرادات من 25 مليون الى 200 مليون ريال بحسب مصادر محلية.
لم تكن الجريمة مجرد اغتيال سياسي، بل كانت رسالة دموية تعلن أن تعز باتت ساحة مفتوحة للعبث، حيث تتحول الإدارات النزيهة إلى أهداف تصفيها العصابة التي تتحكم بمصير المدينة وتمارس فيها الفساد وتقلت الناس باريحية وتفلت من العقاب.
انطلقت المسيرات الغاضبة في شارع جمال والشوارع المؤدية اليه بمشاركة المئات من أبناء المحافظة، رجالا ونساء وشبابا، يرفعون لافتات منددة ومرددين عبارات غاضبة: (ترحل ترحل العصابة)، و(نشتي دولة.. نشتي دولة.. مش متقطعين بالجولة)، في إشارة صريحة إلى رفضهم لحكم سلطة الامر الواقع المتنفذة التي تلبس لثام السلطة.
لم تكن الهتافات مجرد كلمات، بل كانت صرخة استغاثة من مدينة تذبح يوميا بسكين الفوضى، حيث تحوّل الشارع إلى ساحة إعدام لكل من يجرؤ على مواجهة الفساد او التذمر من غياب الامن وانتشار الجماعات المسلحة.
وفق مصادر محلية في المحافظة، فإن الرصاص الذي أنهى حياة المشهري لم يكن أقل من 15 طلقة، استهدفت رأسها ورقبتها وصدرها، بعد أن فرغ المجرمون مخزن بندقيتهم (30 رصاصة على الأقل) من مسافة قريبة، حتى اخترقت الرصاصات زجاج السيارة من الأمام والخلف، وحفرت ثقوبا في علم الجمهورية المعلق على المراية الداخلية، وكأن الجريمة تعلن لا مكان هنا لكرامة المرأة، ولا لقانون يحمي المحافظة وساكنيها.
فلم تكن إفتهان ضحية عابرة، بل رمز لنساء اليمن اللواتي يدفعن الثمن باهظا في معركة استعادة الدولة.
الناشطة الحقوقية إشراق المقطري، وفي صوت مرتعش من الغضب، قالت: (كل ساعة تمر دون القبض على القتلة تشرعن القتل في تعز، وتثبت أن الدماء هنا رخيصة أمام مصالح النافذين). وأضافت: (الله يرحمك يا إفتهان.. قلوبنا موجوعة ولا تقوى على استيعاب أنك سحبت من بيننا بهذه الوحشية، أنت لم تموتي فقط، بل مات معك حلم تعز بدولة تحترم إنسانها).
ولفتت إلى أن الجريمة ليست استثناء، بل جزء من (مستنقع قذر) تدار منه عمليات الاغتيال تحت الستار، حيث تتحالف جهات أمنية مع ميليشيات لتصفية كل صوت نزيه.
المصادر المقربة من التحقيقات تؤكد أن المتهم الرئيس بالقتل، المدعو ( م.ص.ح المخلافي)، أحد أفراد الجيش المتمركز في شمال المدينة، كان مطلوبا أمنيا منذ شهر بعد أن اقتحم مكتب الصندوق وحذّر المشهري من الموت إن استمرت في رفضها لمطالبه بتوظيفه وخمسة اخرين، برفقة المدعو (ل.ج. المخلافي) لكن أوامر القبض صدرت دون تنفيذ، كأن هناك (يدا خفية) تحمي المجرمين.
إلى جانبه، يقف المدعو ( ج.أ.ق المخلافي) - مدير مكتب التربية في مديرية شرعب السلام الواقعة تحت سيطرة ميليشيا الحوثي- المحرض الرئيسي على الاغتيال، وفق تسجيل صوتي نسب للمشهري نفسها، تحذر فيه من أن (ج. المخلافي) هو المتستر عن المتهم، والذي بدأ بافتعال المشاكل وإشهار السلاح بعد اتفاق غامض لتولي حراسة المبنى الحكومي في وقت سابق.
والأدهى أن المتستر، وفق معلومات مسربة، ينتمي إلى دائرة واسعة من النفوذ ويرتبط بقيادات أمنية وفي السلطة المحلية ومشائخية تدير لعبة التستر.
في الوقت الذي تدّعي فيه شرطة تعز أنها ألقت القبض على المتستر(بعد حملة أمنية مكثفة)، كشفت تسريبات تداولها ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي عن أن القبض كان غير ما اعلن عن مركز الاعلام الأمني. وبحسب مصادر مطلعة، فقد تواصل العقيد صادق أحمد قاسم، نائب مدير الجوازات في تعز ، مع أخيه المحرض لإقناعه بتسليم نفسه إلى الضابط معاذ الياسري، بحجة أن دوره (تحريضي فقط)، وبالتالي عقوبته أخف! حتى أن وكيل المحافظة عبد القوي المخلافي شارك في الترتيبات، مما يطرح تساؤلات محقة: هل هذا القبض رسالة للمتظاهرين أم محاولة لامتصاص الغضب قبل أن تتحول الشوارع إلى بركان؟
الأسوأ أن الجريمة لم تكن منقطعة، فقد أصيب الطالب الجامعي حسين عبدالرحمن الصوفي - من أبناء منطقة الجبزية بمديرية المعافر التي تنتمي اليها الشهيدة المغدورة - الطالب في احدى الجامعات الخاصة، اليوم ذاته، بطلقات في رأسه أثناء تواجده في موقع اغتيال المشهري، ليصبح رمزا جديدا لعنف لا يفرق بين موظف وطالب.
حالته الحرجة في مستشفى الثورة تذكّر الجميع بأن تعز تساق إلى هاوية لا قرار لها، حيث تتحول المطالبة بالعدالة إلى جريمة تستحق الإعدام.
في المقابل، تصدرت بيانات رسمية، حيث اشاد وزير الداخلية إبراهيم حيدان الذي (أشاد بالجهود الأمنية) ووعد بـ(القبض على المتورطين)، بينما تؤكد السلطات الامنية المسيطرة على تعز أن (الحملة مستمرة). لكن المتظاهرين يردون: (لا نريد خطبا كاذبة.. نريد إقالتكم ومحاسبة من خلف الستار!). فالمدينة التي فقدت كوكبة من أبنائها في الجبهات وفي الشوارع باتت اليوم تصرخ: (أفتهان منا ونحن منها.. تعز تنزف الم!).
السؤال الذي يهدّد بنسف أي محاولة لاحتواء الأزمة: متى سيدرك النافذون أن دماء الناس لا تشترى بوعود زائفة؟ ومتى ستفهم العصابة أن تعز ليست ملكا لعائلة تطلق الرصاص على أبناء المحافظة؟ الجواب قد يكون في الشوارع التي ترفض أن تتحول إلى مقبرة للضمائر، حيث تعلّق الخيمة الأولى لعمال النظافة احتجاجا على سرقة كرامة المدينة، بينما يتساءل أبناء تعز خاصة والمحافظات المحررة بشكل عام: هل سنعيش لترى العدالة قبل أن تزهق روح جديدة على قارعة الطريق؟

- المقالات
- حوارات