توفيق السامعي
ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الإمامة والحقيقة التاريخية (الحلقة السابعة)
الساعة 08:00 مساءاً
توفيق السامعي

 

 

علي يشكو خذلان أنصاره ودولته في طريق الزوال 

لم تكن نظرة معاوية فقط إلى مصر بتلك الشهية الكبيرة والطمع الأكبر وقدرها العظيم في رفد الإسلام والمسلمين جباية ونصرة ورجالاً، فقد كانت مصر المرجحة لكل طرف منهما، ومرجحة للقضايا الإسلامية الكبرى عبر التاريخ، فقد كان علي بن أبي طالب هو الآخر يراها كذلك، ولما رأى أن معاوية حرك جيشه بقيادة عمرو بن العاص إليها، واستنصره محمد بن أبي بكر برفده بالمقاتلين، قام علي يندب أصحابه في الكوفة فخذلوه، فقال لهم: "عباد الله، إن مصر أعظم من الشام، أكثر خيراً، وخير أهلاً، فلا تغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم، وكبت لعدوكم. أخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة فوافوني بها هناك غداً إن شاء الله. فلما كان من الغد خرج يمشي فوافاه بكرة وانتظر حتى انتصف النهار يومه ذلك، فلم يوافه رجل واحد، فرجع"( ).

يواصل علي - رضي الله عنه- تبرمه من خذلان أتباعه وهو يخاطبهم كثيراً: "ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه. لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم! إنكم تكادون ولا تكيدون، وينتقص أطرافكم ولا تتحامثون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان ذو عقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب..." إلخ( ). 

بل قال فيهم نصوصاً عديدة، تعكس مرارة كبيرة في صدره منهم، ومنها أهم خطبة له فيهم وأشهرها، وقوله لهم وعنهم: "يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة حزت والله ندما، وأعتبت صدما..قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التها أنفاسنا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يطاع"( ). 

كما قال عن شيعته من أهل الكوفة وهو يستنفرهم: "يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء"( ).

من خلال قراءتي لحال الخديعة والمكر ونبذ العهد، فأجد كأن شيعة اليوم استفادوا من تلك الدروس، فانقلب الحال اليوم معهم، فهم من يستخدم المكر والخديعة، والنفاق والشقاق، ويستخدمون المهادنة ونبذ العهود والمواثيق، ويغدرون بالاتفاقات، ويكيدون بالنفاق كأعظم ما يكون الكيد، حتى لكأنهم ما عرفوا أخلاقاً ولا وفاءً ولا تربية ولا مروءة، وهو ما يفعله الحوثيون اليوم باليمنيين، يبطشون بالإرهاب، ويقتلون بلا سبب، ويزرعون أرض اليمن بالموت؛ ترى لهم ألف وجه، متلونين، متناصرين ومتعاونين مع كل غازٍ وكائد باليمن ومضمرٍ لها شراً، وكأن شرور كل من اجتمعت اليوم على اليمن تنضح من إناءٍ واحدة، فلا عرفوا أخلاق الإسلام، ولا مروءة الجاهلية، ولم يستنوا حتى بسنة من يدعون انتساباً إليه وتشيعاً له وهو علي بن ابي طالب الذي رفض قتال المدبر ممن فر من أرض المعركة، ولا الإجهاز على جريح، ولا مس المنابذ المحايد، ولا الإساءة حتى باللفظ لنساء المسلمين! حيث نهى عليٌ عن الإساءة للنساء والتعرض بالشتم للنساء اللواتي حبسن أنفسهن في دار بالبصرة مع عائشة، فقال لأصحابه: لقد أعرضنا عن الإساءة للنساء وهن مشركات أفنتعرض لهن وهن مسلمات؟! تكاثرت الفتن والمشاكل على علي في ولايته، بعكس معاوية الذي كان يرتب صفوفه وينقاد الناس إليه، وساسهم بالدهاء، وتألف قلوبهم بالأموال والمناصب والوعود والأماني، وتغذية الصراعات والخلافات على علي من قبل بعض القبائل والأمصار، ومكاتبتهم بالتخذيل عن علي، ويعدهم ويمنيهم بالولايات والمناصب، والتعبئة ضد علي بالتشويه والقول بأنه امتنع عن تسليم قتلة عثمان، والتباكي على عثمان ليوغر ويؤلب الصفوف على علي وليس على قتلة عثمان، وما كان يريد منه إلا سحب البساط منه، ولذلك نجد أنه حتى عندما تولى معاوية الخلافة لم يعمل على تتبع قتلة عثمان كثيراً والثأر له ومحاكمة القتلة، بل ظل بعض القتلة يسرحون ويمرحون حتى زمن عبدالملك بن مروان، كما هو معلوم في حادثة تولية الحجاج العراق وقتل الحجاج كميل بن زياد وعمير بن ضابئ، وقد كان الأخير شيخاً مسناً جاء يعتذر من الحجاج للتخلف عن القتال وإرسال ابنه بدلاً عنه، وقد كان عذره، ولما خرج من عنده قيل له إنه من قتلة عثمان، فأعاده إليه وضرب عنقه، فكانا آخري قتلة عثمان قتلاً.

كان أبو موسى الأشعري والياً لعثمان على الكوفة لإمامة الصلاة فقط والقضاء، فقد كان القعقاع بن عمرو والياً للحرب، ولما ولي علي الخلافة أقره على ولاية الكوفة والانقياد له، ومع انقياد أبي موسى الأشعري لعلي في كثير من الأمور إلا أنه رفض مناصرته وتجنيد الجنود له للقتال وترك التخذيل عنه؛ لأن أبا موسى الأشعري كان أيضاً يطالب علياً بالاقتصاص من قتلة عثمان.  بذل علي محاولات شتى مع أبي موسى الأشعري في العدول عن رأيه، وقال له: "كيف تكون والينا على الكوفة ولم تطع أمرنا؟!"، فبعث إليه الوسطاء تلو الوسطاء وهو يرفض حتى بعث إليه عمار بن ياسر والحسن، وتسابا وتشاتما، كما تقول بعض الروايات، ثم بعث إليه الأشتر النخعي، وهذا الأشتر من المؤلبين على قتلة عثمان المتولين بعض الأعمال لعلي، وكان قد ولاه ولاية مصر خلفاً لمحمد بن أبي بكر، إلا أنه مات مسموماً في السويس من قبل عامل معاوية على الخراج هناك!

هذا الخلاف بين علي وأبي موسى سيثمر فيما بعد عن رضوخ أبي موسى لخديعة عمرو بن العاص في قضية التحكيم؛ لأنه دغدغ عواطفه وعرف مكمن سره ودائه، فجاءه من زاوية قتلة عثمان التي كان يتمسك بها أبو موسى، وعزل عن إمامة وولاية الكوفة بسبب عدم اتباعه علياً، حتى كان ما كان من أمر التحكيم. بالنظر إلى أبي موسى الأشعري فقد كانت شخصيته التهامية الرقيقة البسيطة ونيته الصافية وتعامله المبدئي التي لا تعرف الحيل والمكر والخديعة، كانت لا توازي شخصية عمرو بن العاص ولا مكره ولا حيله ولا ألاعيبه، ولذلك نجد أن أبا موسى غضب من خديعة عمرو فقال له بعد التحكيم: خدعتني خدعك الله!

وقد تحدثت بعض الروايات أن علياً أدرك خديعة عمرو في هذه القصة، وكان يبعث الرسول تلو الرسول لأبي موسى أن لا يحكم ولا ينقاد لقضية التحكيم مع عمرو بن العاص لولا غلبة الخوارج عليه وإلحاحهم عليه في القبول بالتحكيم حتى لا يظهر أنه رافض حكم الله، وكي لا ينشق عنه الناس وتتصدع صفوفه، وكذلك كان يقول له ابن عباس برفض التحكيم ولا ينقاد للعبة وشَرَكِ عمرو بن العاص، فإنما هي خديعة ومكر وحيلة، وهذه كانت واحدة من أهم القواصم التي قصمت خلافة علي، من عدة زوايا، منها:

1- ستظهر علي بعد التحكيم إذا رفض أنه رفض حكم الله وحكم المصلحين، وكان علي يخاف هذا الأمر؛ إذ حرضه عليها الخوارج، كما سيعترف بعد ذلك.

2- ستظهره بأنه باغٍ يريد الخلافة والسلطة مهما كان الثمن.

3- انحياز بعض من في صفوفه إلى صف معاوية.

4- الأهم والأخطر شق صف علي بإلقاء الفتنة بينهم وظهور الخوارج الذين اتخذوا قضية التحكيم مدخلاً للخروج على علي وتكفيره وتكفير أصحاب التحكيم، وتنازع صف علي وتشتته وقد كان أوشك على الانتصار في صفين، وما كانت إلا خدعة من عمرو بن العاص ومعاوية تلافياً للهزيمة وإلقاء الفتنة في جيش عليه ليتفرق الناس عنه، كما قال هو بذلك في مشورته لمعاوية بها. 

يذكر بعض المؤرخين في قصة التحكيم بين أبي موسى وعمرو بن العاص أن أصحاب علي لم يكونوا على رأي واحد، ولم يكونوا على وفاق، وكانوا يتنازعون فيما بينهم حتى يصل الجميع إلى رأي أو ينتظرون ما سيأمر به علي وما يأتي من عنده، بينما كان أهل الشام من أصحاب معاوية لا يعترضون ولو بكلمة واحدة على ما سيقوله عمرو بن العاص أو يتخذ من أمر، ولم يرجع إليهم ولا لمعاوية بشيء، وهذا يفسر لنا مدى خلخلة صف علي وتنازع أنصاره ولم يكونوا قوة صلبة تقف خلفه، ولهذا كان من عوامل ضعف ولايته وصفوفه.

وبالفعل آتت خدعة عمرو ثمارها؛ فتشتت جيش علي واضطرب إلى حد ما، ورفض عمار تلك الخدعة فذهب للقتال بسرية (انتحارية) معه حتى استشهد، فبعد قضية التحكيم كان على علي أن يواجه جيشين ويقسم جيوشه على عدة معارك؛ معاركه مع الخوارج، ومعاركه مع معاوية، وقبل ذلك معاركه مع الزبير وطلحة وعائشة، مما أضعف جانبه كثيراً، في حين كان معاوية مستريح البال، متربص المآل، ينظر إلى ما سيصير إليه مآل علي والفريق الثالث.

كان هؤلاء الخوارج (على عثمان – غير خوارج علي) من ضمن قتلة عثمان، وقد اتخذوا من بعض الأمور - ومنها تولية عثمان بعض أقاربه, حديثي السن بعض الولايات- مدخلاً للثورة عليه، وأحقاد شخصية في نفوسهم وضعف عقول الغوغاء الذين ينقادون للشائعة ويميلون مع كل صرخة، فقتلوا عثمان، وسنجدهم مع علي يتخذون من قصة التحكيم وكذلك تولية بعض الأقارب لعلي مدخلاً للثورة عليه بل والسعي إلى قتله، كما قال الأشتر يوماً غاضباً: "علام قتلنا الشيخ؟! إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبدالله، والكوفة لعلي، فدعا بدابته ورجع"( )، ترك معسكر علي وذهب.

وكان الأشتر خارجياً على عثمان انتهازياً نفعياً متربص الدوائر مثيراً للفتن طامعاً في الولايات وحب الظهور، وما قال قولته تلك إلا لابتزاز علي لتوليته الولاية، والأعجب أن علياً استعمله في بعض الولايات وكان آخرها توليته على مصر لولا أن معاوية فطن للأمر فأمر عامله على الخراج في السويس أن يدس له السم في العسل فقتله قبل أن يصل مصر، فقد كان معاوية يخشى من سيطرة الأشتر على مصر وسياستها، فقد كان لا يخشى عليها من محمد بن أبي بكر فهو غلام حديث السن لما تعركه التجارب بعد، كما قال عنه معاوية.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص