حين يأتي الحديث عن فينسانت ڤان جوخ على ذكر علاقته بباريس، لا تحضر باريس على هيئة المدينة التي شكلت إلهاماً لكثير من الفنانين وبالتالي موضوعاً للوحاتهم. تحضر باريسٌ أخرى لا ينغمس فيها الفنان بقدر ما يبتعد عنها قليلاً ليتأملها بخشوع ويعبّر عنها بجسارة في لوحاته بين عامي 1886 و1887م.
في مطلع عام 1886م أخذ ڤان جوخ يراسل أخاه ثيو في محاولة لإقناعه بالانتقال إلى باريس. إذ كان المناخ الفني الذي تزخر به هذه المدينة الجميلة الواقعة على ضفاف نهر السين يجتذب الفنانين من أوروبا والعالم، وكان فينسانت يرى في باريس الفضاء الإبداعي الأمثل. وخلال العامين التاليين نشأت علاقة فريدة بينه وبين المكان، وأصبح ڤان جوخ فناناً متغيراً يملك عديداً من الأساليب الفنية المختلفة. هكذا أنتج خلال تلك الفترة أجمل لوحاته، وصقل أسلوبه الفريد في ضرب الفرشاة واكتشاف اللون والتقاط اللحظة الهاربة.
لكن المحزن حقاً في هذين العامين أن تتوقف رسائل فينسانت لأخيه الجميلة بسبب انتقالهما معاً إلى باريس، لكنه كان متشوقاً لتجربة جديدة تجعل منه الفنان الذي يطمح أن يكون. تجوّل بروحٍ مشرقة في أنحاء باريس، وتردد على عديد من المعارض المبكرة للفنانين الانطباعيين، حيث عُرضت أعمالُ ديغاس ومونيه ورينوار.
لا أعرف معنى لكلمة الفن أفضل من الإنسان مضافاً إلى الطبيعة والواقع والحقيقة، مصحوباً بمغزى وبمفهوم وشخصية، هذا ما يعمل الفنان على استخراجه إلى حيز النور، مانحاً إياه قدرة التعبير اللازمة
وفي تلك الفترة فتحت اليابان موانئها للدول الغربية بعد دهر من الحصار الثقافي. كان طبيعياً أن يُسحَر العالم الغربي بالثقافة اليابانية. ومن جانبه، ظل ڤان جوخ مذهولاً بالفن الياباني، حيث نجده يكتب في إحدى رسائله لثيو: «إذا درسنا الفن الياباني سوف نرى إنساناً حكيماً، فيلسوفاً ذكياً دون شك، إنه يقضي وقته في دراسة نبتةٍ واحدةٍ من الأعشاب، ورقةٍ وحيدةٍ من أوراق النبات، ولكن هذه الورقة تقوده في النهاية إلى أن يرسم كل النباتات ثم الفصول والجوانب المتسعة الفسيحة للريف، هكذا يُمضي الفنان الياباني حياته. إنني أحسد اليابانيين على الوضوح الشديد في كل أعمالهم، إنها ليست مرهقة أو مملة، لا تبدو وكأنها أُنجزتْ على عجل. إن أعمالهم بسيطة كعملية التنفس، يرسمون أشكالها بلمسات قليلة واثقة بالفرشاة. إنني أحاول إنجاز الشكل بلمساتٍ قليلة، وهذا يجعلني مشغولاً طيلة الشتاء».
بتوليف رائع من أسلوب الفن الياباني وألوان اللوحة الانطباعية، تجاوز ڤان جوخ عتمة حقول البطاطا والألوان الشاحبة، وراح يكرّس طاقته وتوهجه لالتقاط ضواحي باريس بدلاً من المناطق الحضرية. رسم في السنة الأولى إطلالات مختلفة وواسعة لمدينة باريس بقليل من الحزن والهدوء والألوان الداكنة. لم يبدأ بإسقاط الضوء على لوحاته، بل اختار البنّي والرمادي، هذا الاختيار الذي لا يزال قلقاً ويعبر عن وحدة الفنان وربما وحدة موضوعِه. ثم يختار المنظر المطلّ من شقته، يرسمه مراراً، لكن بانتباه لحياة البيوت وتعدد ألوانها وباستخدام أسلوب التنقيط في المساحات اللونية التي تحتاج إلى تفاصيل أكثر، كأنه يريد أن يلتقط صورة جانبية للمدينة المذهلة.
من مونمارتر إلى الطبيعة
تجلَّت تلك الصورة الجانبية إذاً في مجموعة لوحات صورت مشاهد مونمارتر. ويمكن القول إن التقاط مشهد الشارع كان موضوعاً مشتركاً لدى الانطباعيين، لكن ڤينسانت استطاع أن يقبض على المشهد بأسلوبه الفريد. إذ تعدّ لوحة شارع مونمارتر، على سبيل المثال، واحدة من أجمل لوحاته في مرحلة باريس، فمن خلالها نعرف أن الرجل أصبح فناناً شغوفاً بفنه وبدأ يكتشف أسلوبه الشخصي ويوثقه.
تتكئ محافظة مونمارتر على تلٍّ يطل على باريس، وتشتهر بالمقاهي وقاعات الرقص. ولأنها كانت تقع آنذاك على حافة الريف، فقد أتاحت لڤان جوخ أن يجدد حبه للطبيعة. بدأ يستخدم الألوان بحيوية أكثر في رسم الحدائق النباتية والحقول المزهرة، حتى كانت لوحاته تعكس العاطفة المتقدة داخله، وألوانه تعكس شخصية قوية وجسورة، تحمل كثيراً من التفاؤل، حيث أخذ يجرب الأحمر والبرتقالي والأصفر بحدة ووضوح شديدين. يتجلى في لوحات موضوع لو مولان دو لاغاليت التي شكلت مساحةَ إلهامٍ كبيرة للفنان باعتبارها كانت لا تزال تحافظ على طبيعتها الريفية وطواحين الهواء المنتشرة فوقها. لقد كان الفنان سعيداً بعمله على تلك اللوحات، «يتنفس الهواء النقي والفرح الصيفي» كما كان يعبّر، وكان التقاطه للمراعي والحقول مهماً، ويشكل توثيقاً تاريخياً فنياً لما كان عليه تلُّ مونمارتر، لِكون كل تلك المساحات اختفت مع توسع باريس شيئاً فشيئاً.
ظل محيط مونمارتر والضفة الأخرى من نهر السين يشكِّل مساحة موضوعية في لوحات ڤان جوخ، كما هو حال شارع كليشي الذي صوره كثيراً بمحلاته ومقاهيه، حيث كان يلتقي أصدقاءه من فناني باريس، مثل بيسارو ولوتريك وبول غوغان. كان يوثق الضوء والحركة في المكان، يصور صمت الكراسي ونهايات الشوارع. يخرج كل يوم بغليونه ورغبةٍ جريئةٍ، ويرسم بعاطفة حادة وانفعال، كان يرى أن الألوان إنما تستيقظ في روحه.
وفي أحد الأيام، أحس الفنان بأشياء أمام عينيه لا يستطيع الإمساك بها. كانت سماء باريس تتلون بالرمادي، والمدينة تكبر باضطراد وتصبح أكثر صخباً، فاختار أن يغادر مجدداً نحو آرل جنوباً. لقد غيرت تجربة باريس حياة ڤان جوخ لكنه ظل يستلهم من الطبيعة والمكان الذي منحه لمحة من الهيبة والاحترام.
- المقالات
- حوارات