يعد المفكر السوري محمد شحرور مثقفا استثنائيا، طالما شغل الناس بأفكاره ورؤاه. مجدد وجريء في مقارباته سواء تعلق الأمر بالنص الديني أو بالموقف من حركات الإسلام السياسي. وقد جلبت له مواقفه الناقدة تجاه هذه التنظيمات اتهامات كثيرة بالتكفير والتحريف والالحاد، لكنها لم تثنه عن مواصلة نهجه النقدي ليظل بحق مدرسة متحررة في فهم الإسلام وكتابه.
ورحل المفكر السوري محمد شحرور صباح السبت عن عمر ناهز 81 عاما (1938-2019) في العاصمة الإماراتية أبوظبي. وسينقل جثمانه إلى العاصمة السورية دمشق ليدفن في مقبرة العائلة هناك حسب وصيته.
من دمشق بدأت رحلته الدراسية التي قادته إلى موسكو ليتحصل على شهادة الهندسة المدنية، ومنها عاد إلى وطنه ليشتغل بالتدريس، ليقوم سنة 1990 بنشر أوّل كتاب له بعنوان «الكتاب والقرآن - قراءة معاصرة»، ثم يصدر إثر ذلك مؤلفات أخرى أهمها «دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع» سنة 1994، و»الإسلام والإيمان منظومة القيم» سنة 1996، وقد تناولت في مجملها مسائل التجديد الديني والتأويل وعلاقة الدين بالسياسة، وخاصة في كتابه «الدين والسلطة».
يمثل شحرور واحدا من رواد التفكير العقلاني في الفكر العربي المعاصر. فقد كان من دعاة الإصلاح والتجديد الديني البارزين، الذين يعتبرون أن التطور والتغير سمات يجب أن يتم تأصيلها في الثقافة الإسلامية. لذلك كانت له سجالات وخلافات مع تيارات الإسلام السياسي التي تسعى إلى توظيف الدين في السياسة.
أدلجة الدين
يعد شحرور من المثقفين العرب التنويريين الذين يرفضون بشدة توظيف الدين في السياسة، قائلا “عندما نسمع خطابات حركات الإسلام السياسي ذات التوجه الشيعي أو السني أو غيرهما، والطريقة التي تؤدلج بها كل حركة الدين الإسلامي، نفهم كيف يتم اختزاله في حركة ما وبالتالي كيف يفقد هذا الدين أهم خصائصه التي جاء بها وهي الرحمة والعالمية”.
معتبرا، أن فقدانه لهاتين الخاصيتين راجع لتقزيمه في أطروحات الحركات السياسية التي حولته من دين عالمي إلى دين محلي، “مع أن الدين الإسلامي دين سماوي عالمي يمتاز بالإنسانية في طرحه، ولا يمكن حبسه في قوقعة أفكار الحركات الإسلامية وتوجهاتها وأغراضها”.
وتميز شحرور بنقده للتيارات الإسلامية، بشتى أنواعها ومذاهبها، خاصة في الفترة المفصلية التي عرفتها المنطقة إثر ثورات الربيع العربي، والتي أنتجت صعودا لافتا لتيارات الإسلام السياسي، حيث كان مبكرا في اعتباره أن ما حصل بعد العام 2011 وما صاحبها من صعود للإسلاميين، “شكل صدمة للفكر الإسلامي العادي”.
ويعتبر المفكر أنه بمجرد الاستماع لـ”خطابات زعيم حزب الله الشيعي، أو رئيس حزب النور السلفي، أو رئيس حزب الإخوان، نجدهم جميعا يتكلمون عن دين لا علاقة له بالدين الذي جاء به التنزيل الحكيم، لأنهم يتبنون وجهات نظر ضيقة لا تخدم الدين ولكنها تخدم أغراضهم الشخصية، ويستعملون الدين كمطية للوصول إلى أطماعهم بما في ذلك الوصول إلى السلطة كما هو الوضع في مصر مع الإخوان أو الوضع في إيران”.
ويضيف “وعليه فإن قضية فصل الدين عن السياسة قضية ضرورية وتأتي رحمة بالدين وليس حبا في السياسة، لأن السياسيين على اختلاف أطروحاتهم يرتكبون حماقات وأخطاء لا يجوز أن تنسب إلى الدين، وإذا لم يتم فصل الدين عن السياسة فسيتم إلصاق كل تلك الحماقات والأخطاء به”.
يرى المفكر السوري أن تنظيمات الإسلام السياسي بجميع تلويناتها متشابهة، رافضا الادعاءات التي تسوقها جماعة الإخوان المسلمين بكونها تتبع منهجا وسطيا، كاشفا أن حركات الإسلام السياسي التي تصف منهجها بالمنهج الوسطي في عملية تعاطيها مع أمور السياسة والحكم، وتتهجم على غيرها من أصحاب الأطروحات الأصولية، تمارس التضليل “فعند الاطلاع على مرجعية الطرفين نجدها تقف على نفس المصادر في بناء أطروحاتها، كما هو الشأن بالنسبة لكتاب ‘الجهاد’ لعبدالله عزام، فإننا نجده يعتمد على نفس التفسيرات النصية التي تعتمد عليها حركات الإسلام الوسطية رغم تهجم هذه الأخيرة على أمثاله”.
مرجعية واحدة
يوضح أنه باعتبار أن الجميع يستدل بما هو “مبثوث في كتب الفقه والسياسة الشرعية المتوارثة وإن اختلفت توجهاتهم. ولهذا نحن متأكدون من أنه لا يمكن أن نجد حلا للورطة الكبيرة التي تتخبط فيها الأمة الإسلامية طالما أن المرجعية واحدة، لذلك يجب إعادة النظر في هذه المرجعية أساسا، وتقديم بديل معاصر أكثر عقلانية وعلمية، يكون قادرا على التعاطي مع المشاكل الراهنة للشعوب الإسلامية”.
ولأن محمد شحرور يتحدث من داخل المدونة الدينية ذاتها التي ينطلق منها الإسلامويون فإنه تعرّض للتكفير ووجهت له اتهامات بالتحريف من قبلهم. رغم كونه لم يدع إلى ابتداع إسلام جديد، بل رغب فقط في إحياء التراث التجديدي للمسلمين مثل أطروحات الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، التي تصلح لكل زمان، وخلاصتها القائلة إن “الإيمان والعقل لا يتناقضان وإنما يكمل بعضهما البعض”.
اقرأ أيضا:
فكر محمد شحرور ضد الوصاية على العقل حيّ على تويتر
كما كان صارما في تحميله الثقافة العربية الإسلامية مسؤولية العمليات الإرهابية التي تواترت في المنطقة والعالم مؤخرا، حيث اعتبر أن “الثقافة الإسلامية الموروثة ليست بريئة من المسؤولية تجاه الأعمال الإرهابية التي ترتكب باسم الدين، ولكنها تحمل جل المسؤولية، وأشار إلى أن هذه الثقافة تحلل دماء الآخرين، وهو ما يحتمُ ضرورة إعادة النظر في أدبيات التراث الإسلامي.
وقدّم مفهومه المعاصر للحاكمية الإلهية التي يرى أنها تمثّل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم. والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانية، ويتجسّد من خلال احترامه لهذه القيم وتمسّكه بها والدفاع عنها من منطلق قناعة شخصية مبنية على الانقياد الطوعي للحاكمية الإلهية. ويرى أن هذا الولاء الديني الإنساني هو الرادع لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الطغيان على الناس لسلبهم حرّياتهم، وهو الذي يمكنه أن يحقّق السلام العالمي الذي يحثّ عليه الدين الإسلامي.
وقد تواصل الجدل الفكري والسياسي حتى بعد وفاته، ولئن ظل النقاش الفكري حول أرائه التنويرية مشروعا وصحيا، فإن الكثير من الصفحات والشخصيات الإسلامية، لم تر ضيرا في التهليل بوفاته، من قبيل ما اختطه ناشط إسلامي حين قال “هلك شحرور كما هلك غيره، وسيبقى الإسلام عزيزا”.
رسائل وداع
نعى شحرور عديد من ذويه ومحبيه وقرائه والمختلفين معه، عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وغرد أبنه الدكتور طارق شحرور عبر "تويتر" فقال: "البقاء لله توفي أبي ووالدي محمد شحرور منذ قليل بعد أن أضاف لي درساً أخيراً في الشجاعة وعدم فقدان الأمل. رحم الله والدي وأسكنه فسيح جنانه وجعل الجهد الذي بذله طوال سنين حياته في خدمة الرسالة المحمدية في ميزان حسناته".
وحفلت صفحات الفيسبوك بالتعليقات على رحيله:
كتب الصحافي والكاتب جابر بكر: "بعض الخسارات لا تعوض، رحل محمد شحرور. من خط قلمه لا يموت ذكره، فكيف بمن سطرت يمينه مدرسة جديدة في فهم الإسلام وكتابه... لروحك السلام".
وكتب الإعلامي نبيل شوفان: "رحم الله الدكتور العظيم، من سوء حظ هذه الأمة أن المفكر الشحرور ولد ببلد تتحالف فيه المؤسسة الدينية الفاسدة مع سلطة دكتاتورية ضد كل ما هو جيد لصالح كل ما هو رديء، فغيب وحورب".
وكتب الشاعر رامي العاشق: "كان هذا الرجل كنزاً عظيماً، وهو الآن خسارة عظيمة! شيء واحد يخفف من ألم خسارته، أنه ترك إرثاً معرفياً كبيراً، ولا يعوّض جزءاً من خسارته إلا قراءته... وداعاً يا محمد شحرور!"
وكتب الباحث حسام الدين درويش: "الشحرور أدخل كثيرين جنة التفكير، فحكم عليه كثيرون بجهنم التكفير. لا يحتاج المرء إلى الاتفاق مع رؤى محمد شحرور ومنهجه ومشروعه وتأويلاته الإشكالية المهمة لإدراك مدى أهمية وجوده ووجود أمثاله، ومدى خسارتنا بغيابهم ورحيلهم. ما يحتاجه الإنسان، لهذا الغرض، هو حدٌّ أدنى من الإنصاف، وإدراك أو إقرار حق الإنسان في الاختلاف، عموماً، وحقه في الاختلاف في المسائل والسياقات الدينية خصوصاً.
منهج شحرور اللغوي كان إشكاليّاً، في أسسه ومضامينه ونتائجه، إلى أبعد حد، لكنه فتح العيون على رؤى وتأويلات وممكنات في النص الديني لم تكن موجودة بهذه الصيغة و/أو لم تكن موجودة بهذا الانتشار والتأثير.
ما يأخذه معظم المحافظين والمتزمتين عليه هو ذاته ما يراه كثيرون سبباً للإشادة به، وأقصد أنه جاء بأفكار جديدةٍ لم يسمعوا بها من قبل وتخالف الإجماع المزعوم وجوده لدى "علماء الأمة".
كثيرون لا يرون في الإبداع إلا كونه بدعة، ولا يرون في الاختلاف إلا كونه أساساً لخلافٍ وازدراء، ولا في التغير إلا كونه ابتعاداً عن الأصل الواجب التمسك به والجمود عنده.
بالإضافة إلى منهجه اللغوي المدهش الذي أثار، في أحيانٍ كثيرةٍ، دهشتي وإعجابي وتفكيري أكثر مما أفضى إلى إقناعي، فإن القيم الأخلاقية الإيجابية التي تتضمنها الكثير من أفكاره وتأويلاته، هي أكثر ما أعجبني في فكره ودفعني إلى تقييمه تقييماً عالياً، عموماً".
*******
ولد محمد ديب شحـرور في دمشق عام 1938، وحصل فيها على شهادة التعليم الابتدائي عام 1949، والإعدادي عام 1953، والثانوي عام 1957.
سافر إلى الاتحاد السوفييتي ببعثة دراسية لدراسة الهندسة المدنية في موسكو عام 1959، وتخرج بدرجة دبلوم في الهندسة المدنية عام 1964. عين معيداً في كلية الهندسة المدنية – جامعة دمشق عام 1965-1968 ثم أوفد إلى جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير عام 1969، والدكتوراه عام 1972 في الهندسة المدنية – اختصاص ميكانيك تربة وأساسات. عين مدرساً في كلية الهندسة المدنية – جامعة دمشق عام 1972 لمادة ميكانيك التربة، ثم أستاذا مساعداً.
افتتح مكتباً هندسياً استشارياً لممارسة المهنة كاستشاري منذ عام 1973، وشارك في استشارات فنية لكثير من المنشآت الهامة في سورية.
رحل الدكتور شحرور ليترك وراءه زوجته وأربعة أبناء ذكور، بعد نصف قرن قضاها محاولا هدم التراث وإعادة بنائه.
- المقالات
- حوارات