
لم تكن قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي استضافتها مدينة تيانجين الصينية مجرد اجتماع دوري، بل كانت بمثابة إعلان سياسي واستراتيجي يرسم ملامح نظام عالمي جديد تتشكل تكتلاته في الشرق. فمن خلال زخم الحضور الدولي رفيع المستوى والقرارات النوعية الصادرة عنها، بعثت القمة برسائل واضحة مفادها أن عصر الهيمنة الأحادية يقترب من نهايته، وأن منطق "الحرب الباردة" لم يعد مقبولاً في مواجهة تطلعات "الأغلبية العالمية" نحو تعددية قطبية أكثر عدلاً وإنصافاً.
رؤية جديدة للحوكمة العالمية: الأساس الفكري للتحول
في قلب هذا التحول، طرح الرئيس الصيني شي جين بينج مبادرة "الحوكمة العالمية"، التي تمثل الركيزة الفكرية الرابعة لمشروع بكين الدولي بعد مبادرات التنمية والأمن والحضارة. المبادرة، التي ترتكز على مبادئ احترام سيادة الدول وسيادة القانون الدولي ودعم التعددية، لا تعد مجرد خطاب سياسي، بل هي مشروع متكامل لتأسيس نظام علاقات دولية بديل، يتجاوز الأطر التي فرضتها القوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا التوجه وجد صداه المباشر في تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد "تطابق" وجهات نظر موسكو وبكين حيال بناء "نظام عالمي عادل قائم على الأغلبية العالمية". هذا التناغم الروسي-الصيني لم يعد يقتصر على المواقف السياسية، بل يمثل المحرك الأساسي لتكتل يسعى لتقديم نفسه كقوة موازنة في وجه ما وصفه بوتين بـ "العقوبات غير القانونية" و "استخدام التمويل كأداة للاستعمار الجديد".
الأدوات الاقتصادية: نحو كسر هيمنة الدولار
إدراكاً منها بأن أي تحول سياسي حقيقي يتطلب أساساً اقتصادياً متيناً، خطت المنظمة خطوات عملية لإنشاء بنية تحتية مالية مستقلة. الإعلان عن تسريع إنشاء "مصرف التنمية لمنظمة شنغهاي" لا يمثل مجرد إضافة مؤسسة مالية جديدة، بل هو حجر الزاوية في استراتيجية تهدف إلى تقليل الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية التقليدية كصندوق النقد والبنك الدولي، والأهم من ذلك، كسر هيمنة الدولار الأمريكي.
الدعوات الصريحة لتعزيز استخدام العملات الوطنية وإنشاء صناديق لمبادلة العملات، تعكس إرادة جماعية للتحصن ضد الضغوط والعقوبات الغربية. إنها معركة اقتصادية موازية للمعركة السياسية، تهدف إلى تجريد الدولار من سلاحه الجيوسياسي.
جاذبية جيوسياسية متنامية: من آسيا إلى إفريقيا
لم تقتصر أهمية القمة على قراراتها الداخلية، بل تجلت في قدرتها على جذب الفاعلين الدوليين وتصفية الخلافات البينية. اللقاء بين الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وهو الأول منذ سبع سنوات، يمثل ذوبان جليد دبلوماسي بين عملاقين آسيويين، ويعزز من تماسك المنظمة من الداخل. كما أن التقارب الودي بين بوتين ومودي يؤكد أن العلاقات الاستراتيجية داخل هذا التكتل تتجاوز التحالفات الظرفية.
ومع توسع المنظمة لتشمل 26 دولة (بين عضو ومراقب وشريك حوار)، وتحولها إلى مظلة تمثل نصف سكان العالم وربع اقتصاده، فإنها تثبت أنها لم تعد منظمة أمنية إقليمية، بل أصبحت منصة جيوسياسية عالمية ذات جاذبية كبرى لدول الجنوب العالمي التي تبحث عن بدائل للارتهان بمحور واحد.
موقف موحد من الأزمات الدولية
أظهر البيان الختامي للقمة قدرة المنظمة على بلورة مواقف موحدة تجاه أشد القضايا الدولية حساسية. الإدانة الشديدة للحرب الإسرائيلية على غزة والوضع الإنساني الكارثي، ورفض الضربات ضد إيران، وربط الحل الشامل للقضية الفلسطينية بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، يضع المنظمة كطرف فاعل يمتلك صوتاً مسموعاً ورؤية مغايرة للروايات الغربية.
ختاماً، يمكن القول إن مخرجات قمة تيانجين تؤكد أن العالم يتجه بثبات نحو نظام متعدد الأقطاب، وأن منظمة شنغهاي لم تعد مجرد تكتل إقليمي، بل أصبحت لاعباً محورياً يملك رؤية وأدوات لصياغة مستقبل العلاقات الدولية، في تحول تاريخي قد تكون له تداعيات استراتيجية عميقة على مدى العقود القادمة.

- المقالات
- حوارات