يُقال ضمن ما يُقال أن الأمة التي لا تعرف تاريخها لا تُحسن صياغة مستقبلها، ذلك أن قراءة التاريخ بتبصر وإدراك كفيل بتجاوز كل الصعاب التي تعترض الولوج إلى المستقبل المنظور للأمة، أية أمة، والخروج من حالة التيه والضياع التي قد تلج إليها نتاج تفريطها برباط ماضيها التليد وابتعادها عن مآثر الأجداد وإرثهم الحضاري.
منذ أعوام خلت، حمل كوكبة من شباب اليمن راية استعادة المجد اليمني والهوية الحضارية للأمة اليمنية، في امتداد لحركة التحرر الوطنية الممتدة لأكثر من ألف عام، وذلك بعد أن عادت الهاشمية الدخيلة محاولة التهام التضحيات الوطنية لأحرار اليمن الأقحاح، وإطفاء وهج الجمهورية المنبثق من سنا -ثورة- سبتمبر وأكتوبر المجيدة بواحديتها كفاحاً وأهدافا.
هذا الحراك الوطني –حراك الأقيال- أعاد الروح إلى القضية اليمنية ونفض غبار الأغراب من على ثوب الهوية السبئية الجامعة، ذلك الغبار القادم من خلف الحدود أحدث تشوهات عميقة في هوية الإنسان اليمني الأصيل واستلب منه إيمانه بموطنه الأزلي من خلال تكريس الهوية الهاشمية الدخيلة حتى صار إبن الأرض وساكنها الأزلي ممزعاً بين مسميات مذهبية، زيدية - شافعية، وتلاشى بين هذين الوصفين انتماءه الوطني اليمني وولاءه لليمن هوية وتاريخا وحضارة.
قد يتساءل عارض هنا أو هناك، هل كان لهذا الحراك اليمني داعٍ؟ ولِمَ العودة للماضي واستجراره؟
بكل تأكيد، فإن الكثير من اليمنيين لا يعرفون ما حل بوطننا اليمني منذ أكثر من 1200 سنة، حين اجتاحت تربته الطيبة جماعة إرهابية لا تمسي إلا على أكوام من الأشلاء ولا تصبح إلا على بحر من الدماء. فمنذ العام 284 هجرية ، الزمن الذي اجتاح فيه يحيى حسين الرسي الهاشمي وجنوده بلدنا اليمن العزيز ، بدأ عصر الانحطاط والانحدار المريع لتاريخ وحضارة وهوية اليمن السبئي ، منذ ذلكم العام بدأ عصر النكبات والمآسي والأحزان ، عصر التعذيب وجزّ الرؤوس ونهب الأراضي وتقويض الحرث والنسل ، عصر القتل على الهوية والسحل والسجن لكل من يطالب بأبسط حقوقه ويسعى لحفظ كرامته التي أهدرها القادمون من مجاهل التاريخ.
مئات من السنين السوداء عاني فيها أجدادنا عذابات لا حصر لها ولا حدود من قبل السفاح الرسي وأحفاده من بعده، وزبانيته الذين استجلبهم من أدغال الجريمة المنظمة، مئات من السنين ارتكِبت خلالها جرائم ومجازر يشيب من هولها الولدان ويهتز لبشاعة ظلمها عرش الرحمن.
هل كان اليمني سيعرف عن جرائم المطهر بن شرف الدين الذي قطّع من خلاف أيدي وأرجل 300 يمني من قبيلة خولان لأنها تمردت على حكمه؛ أو عن جريمته البشعة بحق أبناء رداع الذين قتل منهم هذا السّفاح 1000 أسير وأمر 1000 أسير آخر بحمل رؤوسهم إلى صعدة وهناك قتل الألف الآخر ببشاعة لم يفعلها أحد قبله أو كررها مجرم بعده.
وعلى هذا ولأجله، ونظراً لاستمرار هذه الجرائم الممتدة لأكثر من ألف سنة، كان لزاما على هذا الشعب اليمني العريق ممثلاً بشبابه المتنورين أن يقولوا كلمتهم الفاصلة حفاظا على ما تبقى من وطن مزقه الدخلاء واستهان به الأغراب ، فكانت الانطلاقة العظيمة لحراك الأقيال الوطني من عمق تاريخ وحضارة وهوية الأرض اليمنية، من ضمير الإنسان اليمني الجمعي الذي تفتّقت روحه بذلاً و جوداً على خمائل موطنه الأزلي السرمدي.
هذه الحراك الوطني لم يكن ليأتي لولا أن واقع اليمن السياسي والاقتصادي والمجتمعي مرّ ولا يزال بوضع أشبه ما يكون بالإعاقة الكُلية والإنحدار المفزع في كل مناحي الحياة ، وقد عجز، بكل أسف، ساسة اليمن منذ ثورة سبتمبر وأكتوبر على إيجاد الحلول الناجعة للتخلص من إرث الماضي الأسود ، المتمثل بالهاشمية المتوردة، وذلك نتيجة جهلهم بتاريخهم وأحداثه الأليمة ، وعلى هذا فقد كان الهدف السامي لحراك الأقيال الوطني يتمحور حول تحرير العقل اليمني المدجّن من كل الأفكار المستوردة التي سلبته حرية تفكيره وقوله حتى يعود إلى أصله تفكيرا وممارسة ويستعيد بذلك ذاتيته وهويته اليمنية الأصيلة التي ستجرف دون شكٍّ كل الهويات الاحتلالية الدخيلة من أرضه الطيبة العزيزة.
نعم، لم تكن انطلاقة اليمنيين في الألفية الثالثة انتصارا لذاتيهتم وهويتهم مقطوعة الأصل والوصل، بل كانت امتدادا طبيعيا لما قام به ثلة من أقيال اليمن المتنورين الذين رفضوا ظلم الغريب الواقع على بلدهم وشعبهم أو المساس بذاتيتهم اليمانية المقدّسة أمثال لسان اليمن حسن بن أحمد الهمداني ونشوان بن سعيد الحميري وسعيد بن ياسين العنسي وأحمد فتيني الزرنوقي ومحمد محمود الزبيري وغيرهم من رجالات الفكر القومي اليمني الذين كان مصيرهم إما أقبية السجون أو تحت مشاهد القبور ، ذلك لأنهم أدركوا أن الجدار الوحيد المتبقي لنا كيمنيين لكي نتجاوز كل المعضلات التي قوضت كياننا وهدّت أركان بقاءنا ووجودنا، هو التمسك بماضينا التليد والانطلاق منه، واستعادة هويتنا الواحدة التي يجتمع فيها اليمانيين أحفاد سبأ من صعدة إلى سقطرى ومن المهرة إلى زبيد ، فهي التي توحد اليمن العزيز بعمقه التاريخي والحضاري والإنساني الجامع، وتتجاوز كل التشوهات التي أحدثتها تقلبات الأيام.
إن حراك الأقيال، هذا التيار الوطني الجامع يحمله شباب يمني يؤمن بماضيه الذي سيكون بوصلة مستقبله، ومن حق الوطن اليمني عليهم السعي لإخراجه من لُجج الحاضر البائس وهم بلا شك قادرين على اجتراح كل أستار الظلام المحيطة بوطنهم المفدى ورسم لوحة الانتصار لليمن التاريخي الممتد من حدود القلب وحتى أقاصي الذاكرة ، الإنتصار للجيل اليماني الراهن والأجيال التي تليه حتى يعود اليمن حرّاً عزيزاً شامخاً مهاباً ، يعيش فيه اليمنيين أحراراً كراماً تناطح هاماتهم السُّحب وتنضح من معاطفهم الكبرياء.
- المقالات
- حوارات