٢٧يناير ٢٠١٩م
قبل يومين مرت الذكرى السادسة لاختتام مؤتمر الحوار الوطني، كان ذاك يوماً بهيجاً بعد مأساة، صنعها أعداء الوفاق، وضد أحد رموزه ومفكريه. في ذلك اليوم حسمت أمور كثيرة، لكن كان أهمها وصول القوى الوطنية إلى صيغة مقبولة لدى الجميع لشكل ومضمون الدولة. كان هذا الاتفاق حدثاً تاريخياً في حياتنا، وارتقاءاً نوعياً في تفكيرنا السياسي الجمعي. مصحوباً بمساعدة أخوية وأممية.
خَلُصت الحوارات والجدل السياسي العميق بين القوى الوطنية في مؤتمر الحوار الوطني بما فيها الحراك الجنوبي السلمي المشارك إلى نتيجة جوهرية، وفكرة مركزية وهي أن اليمن لن يستقر إلا في ظل دولة اتحادية من عدة أقاليم، تؤمِّن الحرية والعدالة والمساواة بين فئات المجتمع، وتحقق توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة وتضمن حقوقاً متساوية للمواطنين. لقد أراد قادة العمل الوطني تثبيت وتجريب القاعدة الفكرية التي تقول أن الدولة الاتحادية بهذه المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمّنها مشروع الدولة الاتحادية هي تكثيف للديموقراطية وتعميق وصيانة للحقوق والحريات.
وتم الاتفاق في قاعة المؤتمر وبإجماع الحاضرين على أنها دولة لتتكون من إقليمين أو ستة، أو ما بينهما. وشكلت لجنة من قاعة المؤتمر برئاسة رئيس الجمهورية، رئيس المؤتمر، شملت كل القوى والمكونات السياسية والاجتماعية المشاركة، ومنحت صلاحية اتخاذ القرار في شأن الأقاليم، أي في شكل الدولة، وخلصت اللجنة إلى أن اليمن استناداً إلى جغرافيته وتعدد وتنوع قاعدته الاجتماعية والمذهبية وشيئاً من تاريخه الانقسامي في بعضاً من عصوره لا تتناسب معه إلا دولة اتحادية من ستة أقاليم. ذلك أنه إلى جانب الهوية الوطنية اليمنية الجامعة، تكونت لأسباب موضوعية وذاتية وبحكم التخلف والصراع والاحتلالات الأجنبية هويات محلية صغيرة، تستمد وجودها من الهوية اليمنية الجامعة. وهو الأمر الذي كوَّن اليمن الحديث.
وهكذا حُسم موضوع شكل الدولة الاتحادية، بإرادة وطنية ودعم عربي ودولي، وتلونت خارطة اليمن المفترضة بستة أقاليم، هي آزال وتهامة والجند وعدن وسبأ وحضرموت. كان ذلك هو قرار اللجنة، لجنة الأقاليم، والتزمت لجنة الدستور بهذه النتيجة، وأعدت مشروع دستور اتحادي من ستة أقاليم، وسميت الجمهورية اليمنية في هذا المشروع بجمهورية اليمن الاتحادية. هذا من حيث شكل الدولة. لقد اجتهدت لجنة الأقاليم للوصول إلى خرائط معقولة ومقبولة لأقاليم الدولة الاتحادية، آخذة في الاعتبار الجغرافيا التي يصعب القفز عليها، وحجم السكان في كل إقليم واقتصادياته. وكمثال على ذلك كونت الجغرافيا إقليم حضرموت المختلف على تسميته من أربع محافظات، وكان للسكان والاقتصاد المكثف التأثير الأكبر في تكوين إقليم الجند من محافظتين فقط.
كان هذا الاتفاق الوطني المرجعي الهام حدثاً تاريخياً وسياسياً هاماً وتطوراً نوعياً في التفكير السياسي اليمني. ونقلة نوعية في التشريع الدستوري في البلاد لا سابق له بهذا العمق وهذا الوضوح وهذا الالتفاف والإجماع الوطني. هذا التحول في رؤية المجتمع للدولة لشكل ومضمون الدولة سبقتة إرهاصات عديدة، أكثرها أهمية وثيقة العهد والاتفاق الذي وقعت عليها القوى السياسية في الأردن في فبراير ١٩٩٤م. كما أن بعض الكتابات السياسية ربما أسهمت في تقديري في تقديم فكرة الدولة الاتحادية، بهذا المضمون تقريباً الذي أقره مؤتمر الحوار الوطني.
كان الحوثيون أول من أعلن صراحة رفضهم للدولة الإتحادية من ستة أقاليم، لكن ممثليهم في اللجنة الدستورية وافقوا على مشروع الدستور الجديد الذي حظي بإجماع اللجنة الدستورية التي عقدت معظم اجتماعاتها بين صنعاء وأبوظبي. وقادوا من موقفهم هذا معارضة مشروع الدستور الجديد، الذي ألصقوا به تهماً عديدة، لم تقنع الأغلبية من أبناء اليمن، لكنها وجدت عند البعض من يدعمها مع اختلاف الأسباب.
وبرغم بعض الاعتراض على شكل الدولة المتفق عليه كاعتراض محافظة ذمار لإخراجها من إقليم سبأ، واعتراض محافظة المهرة على تسمية الإقليم الشرقي بإقليم حضرموت، وشعور إقليم آزال بحرمانه المتعمد من منفذ بحري فإن حجم التأييد للدولة الاتحادية يزداد اتساعاً بين المواطنين، كما يزداد الوعي الشعبي بأهميتها في مختلف الأقاليم. الخطورة في هذه المعارضة، هو حصول بعض أطرافها على دعم إقليمي، كحصول الحوثيين على الدعم الإيراني وحزب الله اللبناني، ومن ثم في تقديم الدعم المادي والمعنوي لهم لإسقاط الجمهورية، كما أن الخطورة الأخرى تبرز على مشروع الدولة الاتحادية في التحركات المناطقية التي تتجاوز الاصلاح والتغيير إلى التدمير والتشطير وما بعدهما.
والمسألة هنا ليست في عدد الأقليم، هذه مسألة يمكن العودة إليها، بمزيد من إمعان النظر، وإعمال العقل فيها، ودراسة التجربة الإنسانية في هذاالشآن، مع مراعة خصوصية يمنية، ودون تعصب لرأي، أو تحيز لفكرة، بل المعضلة تكمن في أن بعضنا لم يقبل بمعالجات وسطاً وتنازلات متبادلة لتبقى بلدنا موحدة. وهو الهدف الأسمى لمشروع الدولة الاتحادية. كما هو المشروع الدائم لأبناء اليمن. مشروع وجد ليبقى وينمو ويكبر حتى يكتمل.
أن وجود معارضة سياسية خالية من العنف، أو التهديد بالعنف لفكرة ومشروع الدولة الاتحادية الذي تبنته القوى الوطنية بما فيها الحراك الجنوبي السلمي المشارك في مؤتمر الحوار وغير المشارك هو أمر طبيعي إذا مورس من منطلق الحق الديموقراطي، والحرية الفكرية والسياسية، دون تدخل خارجي أوتعطيل لحق الأغلبية في المضي بمشروعها إلى الوجود. في الحالة السلمية كل نضال يصبح مشروعاً، وفي حالة العنف أو التهديد بالعنف يعتبر هذا النضال وإن تشدق أصحابه بالسلمية تعدياً على الحقوق والحريات العامة. وخروجاً على الإرادة الوطنية.
إن ما يحدث اليوم في اليمن لا يتفق ومصلحة اليمنيين، ولا ينسجم مع إرادة الأمة، لقد قلب الانقلاب الحوثي على الشرعية المسار السلمي الطبيعي لأزمة اليمن رأساً على عقب. السلالية المتعصبة والتكتيكات الخاطئة للبعض وضعتا اليمن على حافة الانهيار، ساعد على ذلك ارتفاع منسوب التعصب المناطقي الباحث عن هوية، والمآلات ستكون مدمرة أولها: إسقاط الجمهورية في صنعاء والوحدة في عدن، وآخرها الذهاب باليمن الى التشظي والتقسيم والتقزيم.
تقسيم اليمن لن يخدم في النهاية سوى أعداء اليمن، وأعداء الأمة المحيطين بها من كل صوب، والمتربصين بأمنها، وأن التصدي لهكذا مشاريع مرهون بقدرة الشعب اليمني على الدفاع عن وحدة أراضية، والانتصار لنظامه السياسي الاتحادي المتفق عليه، وهويته اليمنية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وجعل الدولة الاتحادية ضرورة وطنية قصوى وخياراً لا رجعة فيه.
- المقالات
- حوارات