في ذكرى رحيل القاضي والسياسي جمال محمد عمر
د. أحمد عبيد بن دغر
١٨ فبراير ٢٠١٩ م
( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ). صدق الله العلي العظيم. كثيراً ما يختار الموت أفضلنا وأكثرنا عطاءً، ولأن الموت قضاءٌ الله لا راد له، فنحن لا نملك لمن رحلوا عنا دون رجعة غير الترحم على أرواحهم، والدعاد لهم وذكر مناقبهم، وحسن فعالهم، هؤلاء عادة يتركون لنا تاريخاً من العطاء والتضحية في سبيل وطن لازلنا ننشد له السلم والاستقرار. وشعب نريد له الأمن والأمان. شعب تتنازعه الصراعات، ودولة ومجتمع يقاوم بعناد ووعي للبقاء موحداً ومتحداً.
القاضي والسياسي جمال محمد عمر واحد من رجال اليمن الأفاضل رجال القضاء المرموقين، والمحبين لدولة القانون، والمواطنة المتساوية، رجل رفض الظلم وهو يخوض في هذه المهنة محامياً نابهاً لنصرة الحق، ومارس القضاء في درجاته الدنيا والعلياء إنصافاً لمن له الحق، فحكم، وتصدى لأكثر القضايا تعقيداً، وربما أخطرها أثراً. كان العدل ديدنه، وكان الوطن يسكن قلبه وعقله لم يفارقة حتى والمرض يدني أجله شيئاً فشيئاً.
ولأنه -رحمه الله- ذو عقل راجح وضمير حي، رفض الفوضى عندما غرقت اليمن في لجة من الدماء والدمار، وتصدى مع رهط آخر من القضاة للانقلاب، رفض الكهانة، وتمسك بالدولة المدنية، ودافع عن الدستور والقانون، لم يتردد قط في الانظمام إلى الشرعية فكان أحد رموزها القانونيين، ومرشد هيئآتها التنفيذية، وأخيراً واحداً من أبرز وزراء المرحلة. كان محاميها العام، ثم وزير عدلها حتى توفاه الأجل، واختطفته المنايا. وانتزعته وهو في قلب معركة التحرير والمستقبل والمدنية.
رجل قيم ومبادئ وذو هدف واضح في الحياة، لم يخلط بين كونه قاضياً ووزيراً للعدل، وبين كونه سياسياً، لقد مارس عمله القانوني في حياد تام، ووقف كأبرز السياسيين في الدفاع عن الدولة وعن الجمهورية والوحدة وبذل قصارى جهده في تقريب مشروع الدولة الاتحادية لمن تولى المسؤولية عنهم. كان محباً لوطنه الكبير، محباً لليمن واليمنيين، ونصيراً للمضطهدين منهم. وكان يميز بين ظلم الساسة، وسوء إدارة الدولة، وعظمة الوحدة. كان صافي الذهن، ونقي السريرة.
بجهود منه ومن زملائه في المحكمة العلياء ومجلس القضاء الأعلى أعيد بناء الجهاز القضائي في العاصمة المؤقتة عدن وفي معظم المحافظات المحررة بعد أن أوقفها الانقلاب، وشرَّد قضاتها، كان يقول لنا دائماً كل شئ يمر عبر القضاء، حتى النصر على الحوثيين لابد له أن يمر عبر قضاء عادل في المناطق المحررة، نموذج عدل مختلف، كان يدرك أن القضاء هو اللبنة الأولى في إعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار، وقد أخذنا برأيه وساندنا توجهاته.
رحم الله قاضينا ومحامي الدولة ووزير عدلها وإبن عدن واليمن البار، القاضي والسياسي جمال محمد عمر، غادرنا في وقت كنا في أمس الحاجة له ولأمثاله. في وقت يحتاج القضاء وتحتاج الدولة والسلطة إلى رأيه الحصيف ونظرته الثاقبة، غادرنا ونحن في أمس الحاجة لموقفه السياسي الصلب في مواجهة الخصوم، خصوم الدولة، وخصوم العدالة، خصوم الدولة الاتحادية، ودعاة التطرف في الدين والسياسة. رحم الله جمال وطيب الله ثراه، وأعان من خَلَفَه، وسار على دربه. واقتفى أثره، وحاز مكانته.
- المقالات
- حوارات