إنّ الإهتمام بالسياسة فكراً وعملاً، يقتضى قراءة التاريخ أولاً، لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً طول عمرهم. هكذا لخص الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل أهمية قراءة التأريخ والوعي به، مُقرناً الجاهل بما حدث قبل مولده بالطفل اللاهي محدود الخيال، الطفل الذي يتعامل مع محيط بصره فقط ويتصرف وفقا لذلك دون وعي وإدراك بالحيثيات والتراكمات التأريخية التي خلقت الواقع الذي يعيشه ويُعايشه ويتعامل مع معطياته.
ومن هذا المنطلق فإنّ قراءة التأريخ الوطني والغوص في كنهه ومكنونه بات مُلزِم وطنياً، هذه القراءة لا يمكن أن تكون حِكراً على المتخصصين في التأريخ أو الدارسين له والباحثين فيه، ذلك أن التأريخ الإنساني ليس تخصصا علميا تطبيقيا يمكن اختزاله في قالب بشري معين، بل أحداثا وتراكمات حضارية للإنسان الذي لم ينقطع أصله ووصله، وتتبّعاً للموروث الثقافي والسياسي لسوالف الأمم، بهدف معرفة النشأة والتكوين والممارسة الحياتية لأية أمة من هذه الأمم، وقراءتها هي قراءة للذاتية البشرية التي شكّلت كيانا جغرافيا حضاريا توارثته الأجيال جيلاً إثر جيل، وعلى ذلك فإن الوعي بهذا التأريخ قيمة إنسانية بحد ذاتها، جوهرها حفظ ذاكرة الأمة وهويتها الثقافية والحضارية؛ واللاوعي به بلا شك قطيعة مُرعبة، وجفوة مُهلكة، مؤداها ذاكرة تأريخية معطوبة، وأجيال متعاقبة مشروخة الولاء والإنتماء والهوية الوطنية الحضارية.
المجتمع اليمني واحد من أعرق المجتمعات المتجذرة حضاريا، فهو يزخر بموروث حضاري مادي مبهر، ويمتلك تأريخا إنسانيا باذخا صنعه الإنسان اليمني في مختلف حِقَبه الزمن وعصوره، خاصة حضارتي سبأ وحمْيَر الممتدة عبر آلاف السنين. هذا التأريخ التليد يفترض به أن يكون حاضرا في الوجدان اليمني الجمعي وأن لا يبرح مخيلة الأجيال اليمنية، ذلك أن الوعي به واستحضار إشراقاته يُجذّر الانتماء الوطني الجامع، ويُوثِق عرى المجتمع ويفتلها، ويحافظ على كينونة الأمة اليمنية وواحديتها، السياسية والجغرافية والإنسانية. ولو أن الوعي بتأريخ اليمن ظل حاضراً في أوساط اليمنيين عموما لما سمعنا بالنزعات الانفصالية وموجات التنكّر لليمن الواحد، وهو الوعاء الجامع لأبناء العمومة والأرومة الواحدة، ولما احترب الأهل والأقارب استجابة لنزوات حكم آنية زائلة، ولما كان اليمني عُرضة للإستقطابات الداخلية والخارجية.
وفي ذات السياق، فإن الوعي بتأريخ الدُخلاء على اليمن خاصة السُلالة الهاشمية العنصرية، واستحضار جرائمها في الوعي الجمعي اليمني، هو واجب وطني أيضاً، لتحصين المجتمع اليمني وتمنيعه، والحيلولة دون استغفاله مرة أخرى من قبل الكيان العنصري الهاشمي، والزج به في أتون حروبها السُلالية بما تملكه من محركات دينية عنصرية. والحقيقة المرة هنا أن الأجيال اليمنية التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر الخالدة نأت بنفسها عن قراءة التأريخ اليمني، زينه وشينه، ولو أنها وعت على الأقل التأريخ اليمني المعاصر، تأريخ الحركة الوطنية اليمنية ونضالاتها خلال القرن العشرين، لما كنا نعيش هذا الواقع المرير ونعايش هذا الخراب المنتشر في كل ربوع اليمن، بعد عودة السلالة الدخيلة لفرض الولاية الهاشمية الإرهابية ونظرية حصرية البطنين العنصرية، هذه العودة كانت بلا ريب المحصلة الطبيعية للوعي التأريخي المُفتَقر، والجهل المُريع في معرفة ماهية السلالة وامتداداتها الإجرامية؛ تلك الأغوار العميقة من الجهل بهذه السلالة لن يُسبرها سوى الوعي بتأريخ اليمن وتأريخ الجريمة الهاشمية على حد سواء.
ومن باب التذكير والإعتبار، فإن كل الأمم التي رافق ماضيها جرائم إرهابية عنصرية، عملت على جعل تلك الجرائم حاضرة بشكل دائم في الوجدان الشعبي الجمعي، ونقشتها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة؛ فالنازية مثلاً ظلت حاضرة في كتب التأريخ وفي متناول الكُتّاب والمؤرخين بشكل مستمر، ما جعلها حركة مُجرَّمة مجتمعيا نِتاج الوعي بأفعالها الشائنة؛ الأمر كذلك في المجازر التي تعرض لها الأرمن من قبل العثمانيين، تلك المجازر لم تعد حاضرة في الوعي المجتمعي المحلي فقط بل في الوعي المجتمعي العالمي؛ في حين أن مذبحة المطرّفية التي راح ضحيتها أكثر من 100 ألف يمني آمن مُسالم والتي ارتكبها المجرم عبدالله بن حمزة لا تزال تحتفل بها السلالة الهاشمية حتى اليوم عن طريق تقديس سفاحها وتداول مؤلفاته الإرهابية، في ظل عقل يمني تائه، حائر وغير واعٍ بماضيه وأحداثه الأليمة.
خلاصة القول، إن غياب الوعي التأريخي في المجتمع اليمني ساهم بقوة في استنبات المشاريع الخارجية في الوجدان الشعبي اليمني، هذه المشاريع تهدد الوجود اليمني برمته، دولة وهوية وكيانا وطنيا جامعا، وعليه فإن كل يمني مؤمن باليمن ملزَم بإعادة قراءة تأريخه وتأريخ السلالة الدخيلة، ونشر هذا التأريخ لزيادة منسوب الوعي الوطني المؤدي إلى تجذير الانتماء والولاء لليمن أولاً وأخيراً، وتمنيع الجسد اليمني من الانزلاق إلى مهاوي المشاريع السلالية أو الوقوع في شراك الاختراقات الخارجية -وهذا ما بدأه حِراك الأقيال الوطني منذ سنوات، مُعتبِراً أن من خوارم المروءة الوطنية تجاهل هذا التأريخ أو التقليل منه بادعاء أنه حدث مضى ولن يعود- أو حصر قراءته والحديث عنه في الدارسين له والضليعين في أسفاره دوناً عن غيرهم من المهتمين به، سواء أكانوا في المجالات التطبيقية أو حتى الصحافية التي يصفها الراحل حسنين هيكل بأنها تأريخٌ تحت الصُنْع.
- المقالات
- حوارات