مقدمة
كانت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم- حدثاً مزلزلاً بالنسبة للمسلمين أربك كل أوراقهم، حتى إن بعض كبار الصحابة لم يسلم بموت النبي - صلى الله عليه وسلم- وإنما ذهب لمناجاة ربه كما فعل موسى بن عمران، وعلى هذا الموقف كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
تركت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم- فراغاً روحياً وقيادياً، وفراغاً في السلطة لم يحسب له المسلمون حساباً بعد وفاته، ووجد الصحابة والمسلمون أنفسهم أمام معضلة حقيقية في إدارة المسلمين ودولة الإسلام؛ فالذي كان يديرهم ويرعاهم وينظم شؤونهم وأمورهم ودولتهم نبي مرسل مؤيد بوحي من السماء، يتلقى كل صغيرة وكبيرة في تنظيم وتشريع حياة الناس، فكان على من سيأتي بعده لا بد أن يكون أقرب إلى مكانة النبي وأكثر الناس التصاقاً به، بما يعرف اليوم بالرجل الثاني في المكانة.
غير أن الوحدة الاجتماعية للمسلمين كانت مكونة من جناحين رئيسين يحلق بهما المسلمون على الدوام قبل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهما جناحا المهاجرين والأنصار، وفجأة يجد المسلمون من هذين الجناحين أنفسهم أمام معضلة إدارة المسلمين ومصالحهم.
كان الأنصار يرون لأنفسهم الحق في إدارة هذا الأمر، وتولي أمور المسلمين؛ كونهم أصحاب الأرض وأصحاب النصرة والقوة والغلبة والرعاية واستضافة النبي وأصحابه المهاجرين، وهذا سينعكس في خطابهم للترشح للخلافة.
سارع المسلمون لتلافي هذه المعضلة، فانقسم الناس إلى فريقين ومكونين في الترشيح وليس للأشخاص؛ مهاجرين وأنصاراً.
سارع الطرفان لحسم الأمر قبل أن يتحول إلى صراعٍ دامٍ يودي بالأمة إلى الهلاك المبين، حتى إن المعضلة الكبيرة في طريقها إلى التكون والظهور، وهي الردة عن الإسلام من معظم القبائل التي كانت دخلت الإسلام، واعتبرت أنها في حلٍ من أمرِها بعد وفاة النبي.
تعارك الناس في المواقف، وتصارعوا بالحجج والمواقف وبعض الألفاظ، والتلويح من قبل بعض الأنصار باستخدام السيف، كما فعل الحباب بن المنذر، ولهذا السبب تحديداً قال عمر بن الخطاب: "كانت فلتة وقى الله المؤمنين شرها"( ).
بدأ الجميع يعرض حجته ومصالح الناس، وكان البرهان هو سيد الموقف؛ إذا اقتنع الناس بالحجة والمنطق بحسب ظروف اللحظة سلم أحد الطرفين للآخر بحكم التربية الإيمانية لجيل صنعه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء.
في هذه اللحظات لم يكن علي ولا غيره مرشحين، وكان من الاستحالة بمكان – حسب ظروف اللحظة وفقه الصحابة- أن يتقدم علي بن أبي طالب على أبي بكر، وهو الذي رفض مقترح عمه العباس بن عبد المطلب أن يذهبا للنبي لجعل الولاية فيهم كأقرباء له، فأبى علي حتى لا يجد صداً من النبي تكون حجة على بني هاشم أبد الدهر، ففضل أن يبقى الأمر مفتوحاً، فلم يجمعوا عليه والميدان خالٍ له بعد مقتل عثمان دون منافس، وقبل عثمان، فكيف به في عهد أبي بكر وعمر! سنجد هذا الأمر لاحقاً عند ظهور الشيعة بعد استشهاد علي - رضي الله عنه- بقرن من الزمان، وظهور وتكوين نظريتهم السياسية الشيعية، كنظرية ثقافية فكرية وسياسية عسكرية (الإمامة) تقسم الأمة إلى فريقين؛ فريق السنة وفريق الشيعة، وتدعي أن الحق للبطنين، وتفرز الناس والحقوق على هذا الأساس، وستدور فيها معارك دامية لن تستقر الأمة من خلالها حتى قيام الساعة، وكل فريق يرى الأحقية لنفسه.
دفعت بلادنا – اليمن - الأثمان الباهظة جراء هذا الانقسام والادعاء الإمامي عبر التاريخ، وجعل الأئمة بلادنا مرتعاً لكل متسلق على النسب الهاشمي، دعي للإمامة، ومسرحاً لكل الأحداث الدامية، حتى دمروا وطننا وجعلوه في ذيل القائمة العربية، وهو الوطن الذي كان قبل دخول الإمامة اليمن قائد الحضارة الإنسانية العالمية، ويعتبر من الدول العالمية العظمى يومها، كان له النصيب الأكبر في التأثير في الحضارة الإنسانية وصنعها من الصفر؛ فقد كان الإنسان اليمني أول من ابتكر الأبجدية العالمية (الخط)، وأول من عرف النظام الاقتصادي والتجارة العالمية وقنن لها، وشرع للإنسان في حياته الدينية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية.
من يراجع النصوص اليمنية في النقوش المسندية سيجد أن التشريع الإسلامي ارتكز في كل مجالاته على الحضارة اليمنية، وجاء الإسلام مقتفياً لكل الإيجابيات العالمية التي نظمها الإنسان اليمني الأول، وهو ما صدقه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
لا يدرك مدى الجريمة والنكبة التي أحدثتها الإمامة في اليمن إلا من قرأ التاريخ اليمني ووعاه وفقهه وحفظه عن ظهر قلب، أين كان اليمن وأين صار اليوم بسببها، لذلك ألمنا كمؤرخين وباحثين ليس هيناً أبداً من قبل هذه الشرذمة الطارئة الدعية.
نحن هنا في هذا البحث إنما نفكك هذه الحلقات ونفندها منذ ظهورها في بداياتها الأولى، في سلسلة أبحاث متتابعة – إن شاء الله-، ليعلم الناس متى تأسست هذه النظرية، وهل كان الحق لعلي أم لغيره، ومدى ادعاءات الشيعة بوصاية النبي لعلي في الحديث أو ما يتم تأوله في القرآن من قبلهم في تزوير مبين.
وبمناسبة يوم الولاية التي تحتفل بها الشيعة، وعلى وجه الخصوص الحوثية الإمامية عندنا في اليمن في كل عام، وهي يوم الغدير (غدير خم ) الذي يصادف الثامن عشر من ذي الحجة من كل عام، أردنا أن نبين هذا الأمر بالدراسة والتمحيص، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
أولاً: بيعة السقيفة.. نظرة في الخلافة والترشيح
يذهب بعض الكتاب اليوم، بطريقة عاطفية، وبعيداً عن العوامل الموضوعية وظروف اللحظة التي تمت في بيعة السقيفة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن بيعة السقيفة تمت بشكل مستعجل استخدمت فيها الحيل لانتزاع حق الخلافة من الأنصار وعلي بن أبي طالب يومها.
يلتقي أصحاب هذا الرأي مع آراء الشيعة المتعصبين لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه- دون أن يذهب الجميع إلى التدقيق في الحادثة والنظر إليها بظروفها تلك في ذلك الزمن لا بظروف اللحظة اليوم وعوامل اليوم.
لقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أمراً جللاً وحدثاً مزلزلاً حتى أن بعض الصحابة لم يصدق وفاته وقال إنما ذهب إلى ربه كما فعل موسى بن عمران، في نفس الوقت ستجد الأمة نفسها في متاهة بعده، خاصة وأنه لم يختر بعده خليفة، ولم يشر لأحدٍ من بعده، لا إلى أبي بكر، كما تقول السنة، ولا إلى علي كما تقول الشيعة، بل إنه ترك الأمر شورى بين المسلمين.
لكن فريق السنة يقول إن الرسول أشار ببعض الإشارات إلى أبي بكر ومنها أمر إمامة الصلاة وغيرها من الإشارات، كحديث المرأة التي جاءت تسأل النبي شيئاً فقالت: "أرأيت إن أتيت فلم أجدك"، قال: "ستجدين أبا بكر". بينما تقول الشيعة إن النص جلي في علي، وأوردوا لذلك نصوصاً مختلفة غير صحيحة.
غير أنا وجدنا كل النصوص التي أوردوها في علي هي محض تزوير وافتراء مما ألفه شيعته من بعده، ولم يكن علي نفسه يحتج بها، كما لم تكن قد ظهرت قبله بل بعده بأجيال من افتعال المتشيعين له، لذلك لم يكن حتى أحد المرشحين في سقيفة بني ساعدة ولا بعدها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأمر شورى بين المسلمين دون أي تدخل منه ليجعلها في أحدهم، ولقد دل على ذلك الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب نفسه عن الرسول، حدثنا أبو سعيد، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت مُؤمِّراَ أحداً دون مشورة المؤمنين، لأمَّرتُ ابن أم عبد"( ).
لكن هناك حديثاً أكثر وضوحاً وصراحة بالإشارة إلى أبي بكر، حيث ثبت بأصح إسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوصي لأبي بكر الصدِّيق بالخلافة بعده، ثم ترك الأمر، وقال بأن المؤمنين لن يرضوا بغيره خليفة، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ؛ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ - أَوْ: يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ" رواه البخاري (5342) – واللفظ له - ومسلم (2387) بلفظ: "وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْر".
ونجد بعد ذلك أن كلا الفريقين القائلين بظلم الأنصار وعلي جعلوا من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- محور الارتكاز لتلك البيعة وحسم أمر الخلافة، مع أنه وُجدَتْ شخصيات ربما كانت الأكثر تأثيراً في حسم الترشيح، كما سيأتي لاحقاً. لم يكن عمر ولا أبو بكر متواجدين في السقيفة لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستبقت الأنصار الأمر فسارعت إلى بحث أمر الترشح وخلافة النبي في الأمر، فأبلغ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بالأمر إبلاغاً من قبل بعض المهتمين ممن حضر جدل الأنصار في الترشح، ولم يكن فريق المهاجرين موجوداً بعد في اللحظات الأولى لاجتماع الأنصار، وقد كان الحباب بن المنذر - رضي الله عنه- من الأنصار وزعيم المتقدمين للترشيح، حتى أنه لوح باستخدام السيف والحرب في وجوه المهاجرين إن هم عارضوا خلافة الأنصار، وهو كما يعلم الجميع أحد أبطال بدر الكبار، ومسموع الكلمة في قومه.
سارع عمر يستدعي أبا بكر وأبا عبيدة وعبدالرحمن بن عوف- رضي الله عنهم- وذهبوا إلى السقيفة ينظرون أمر الأنصار واجتماعهم والاستماع إليهم، وكان علي وطلحة والزبير غير موجودين في تلك الأثناء، كما تقول كثير من الروايات، وكان علي والعباس يجهزان جثمان النبي صلى الله عليه وسلم للدفن.
حاول عمر أن يبدأ خطبته فيهم، وقد كان تزود بما سيقوله للأنصار، لكن أبا بكر سبقه في الخطبة في الحاضرين، وتراجع عمر لأن أبا بكر في نظره قد قال كل ما يمكن قوله. لقد كان عمر - رضي الله عنه - يرجح كثيراً من المواقف سواء كانت السياسية أو الدينية أو الفقهية حتى في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وبها عُرف لدى الصحابة جميعاً، ولذلك كان رأيه يقدم على كل الآراء حتى في حضرة الرسول، وتعدل ترجيحات عمر نصف آراء الصحابة أو تزيد، وكان الرسول ينزل عند رأي عمر في كثير من المواقف.
فبالمقارنة بين فريقي الأنصار والمهاجرين من حيث المواقف السياسية والدينية والاجتماعية ووحدة الصف من عدمها، وقوة الحجة من ضعفها على النحو التالي: فقد كان فريق الأنصار مشتتاً ولم يكن موحداً في الرأي والكلمة، فقد كان على رأيين؛ رأي مؤيد لخلافة الأنصار ولسعد بن عبادة وهو الأكثر، ورأي مؤيد للمهاجرين ولأبي بكر، وعلى رأس هذا الرأي سيد الأوس أسيد بن حضير الذي كان رأيه يعدل رأي عمر في المهاجرين والصحابة تقريباً أو دونه في المكانة، فهو القائل يوم السقيفة: "تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين فخليفته إذاً ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"، وهي كلمات كان لها وقع السحر علي المهاجرين والأنصار على حد سواء، واعتبر عند بعض المؤرخين بطل يوم السقيفة؛ كونه حدد وجهته بقوة دون لبس أو تردد كما فعل قومه الأنصار.
كانت كلمة أسيد مزلزلة وحاسمة في اختيار الترشيح للمهاجرين؛ قوت صف المهاجرين وأوهت فريق الأنصار، فقد كان رجلاً مسموع الكلمة في قومه سيداً عليهم.
وكذلك كان بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير من الخزرج، القبيلة التي سيدها سعد بن عبادة، مرشح الأنصار، والذي يلقب بأسد الغابة لقوته وشكيمته، وشهد كل المواطن مع الرسول ابتداءً من بدر وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان مسموع الكلمة في قومه أيضاً، رغم أنه من الخزرج، وسعد يعتبر رئيسه قبلياً، إلا أنه لم يساند أمر خلافة الأنصار ولا رئيسه سعد بن عبادة، وكان بشير أول المبايعين لأبي بكر حتى قبل عمر وأبي عبيدة وعبدالرحمن بن عوف الذين ذهبوا إلى ترشيح أبي بكر، وهنا تخلخل فريق الأنصار، فلقد تبعته على الفور قبائل الأوس كلها وعلى رأسهم أسيد بن حضير، فكانت سابقة الأوس في مبايعة أبي بكر دون سعد بن عبادة زعيم الخزرج قاصمة لترشيح سعد بن عبادة.
لقد أبدى الأنصار استعدادهم للقتال دون الولاية التي اعتبروها حقاً لهم بالنصرة والتأسيس والغلبة للدين، وصحبة الرسول ونصرته وإيوائه والتضحية معه، وقوة السيف الذي ناصروا به الدعوة والرسول، وكان على رأس هذا الأمر المحرض عليه الحباب بن المنذر، أحد أبطال بدر، غير أن هذا الأمر (الدعوة لاستخدام القوة والحرب) بدل أن يكون عامل قوة لفريق الأنصار عاد مكمن ضعف لهم؛ إذ اعتبر من قبل المهاجرين وبشير بن النعمان ردة عن الدين ومكانة الأنصار في الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل أبو بكر في الأمر فخاطبهم بعاطفة التدين: "اتقوا الله ولا تكونوا أول من يرتد عن هذا الدين بعد أن كنتم أول من ناصره ولكم السابقية في ذلك"، وهو الأمر الذي يكرره بشير بن سعد بن النعمان في قومه الأنصار، حتى وقع في نفوسهم.
هناك أمر آخر في غاية الأهمية، وهو اختلاف الأنصار فيما بينهم كفريقين ومكونين رئيسين على الدوام، أضعف صفهم وموقفهم، وهما فريق الأوس وفريق الخزرج، الذي رأى فيه فريق الأوس أنه إن تم الأمر لسعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج- فإنهم سيسودون على الأوس، فقد كان عامل التنافس بين مكوني الأنصار (الأوس والخزرج) على الدوام وفي كل شيء، وهنا سارع أسيد بن حضير من الأوس لتأييد فريق المهاجرين بعد بشير بن سعد، رغم أن هذا الأخير من الخزرج؛ أي من قوم سعد. في الطرف الآخر، كان فريق المهاجرين موحداً على رأي واحد، وهم كبار الصحابة أيضاً؛ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وعبدالرحمن بن عوف، وكانوا يطرحون رأيهم بقوة أن أصل الولاية لا بد أن تكون في قريش؛ قبل أن يسموا الشخص المرشح للخلافة. .... يتبع
- المقالات
- حوارات