دعونا نلّخص المقال في مقدمته: "إن أكبر جناية في حق القضايا العادلة أن تستغلها الأنظمة الظالمة".
هذه حقيقة الحقائق التي نجربها كل يوم مع من يرفعون شعارات وقضايا دينية ووطنية وقومية وإنسانية وسياسية مختلفة. وهذا بالضبط ما حدث للقضية الفلسطينية تحديداً على يد الكثير من الأنظمة العربية والتنظيمات الفلسطينية في الماضي، وما يحدث لها اليوم على يد النظام الديني الحاكم في طهران، ذلك النظام الذي استغل فلسطين ضمن غيرها من القضايا والشعارات لخدمة أطماعه التوسعية المعروفة، حتى أصبحت فلسطين، تمثل اليوم «حصان طروادة» طهران للنفاذ إلى عمق النسيج الاجتماعي العربي لتفتيته، ولإحداث المزيد من الصراعات بين الأنظمة العربية المختلفة.
كُتب الكثير عن استغلال طهران للقدس، والانتهازية الإيرانية في تبني خطاب مخاتل يقوم على دغدغة مشاعر الجماهير العربية، عن طريق فعاليات وأنشطة تجمل صورة نظام إيران في الشارع العربي، وتحاول التغطية على ما يقوم به هذا النظام من تسييس لـ»التشيع العربي»، باختصاره في ميليشيات طائفية تستعمل كسكين لتمزيق السلم الاجتماعي، والمنظومات السياسية في المنطقة العربية.
لقد بات ذلك التكتيك الإيراني واضحاً للعيان، لكن واحدة من أهم الجنايات التي نتجت عن هذا التكتيك، في حق فلسطين، هي إسهامه في نقل الاهتمام المركزي في الوعي الجمعي العربي اليوم من فلسطين إلى بلدان أخرى، يمارس فيها الإيرانيون هوايتهم في نشر الفتنة الطائفية، وإنشاء ودعم ميليشيات مرتبطة – آيديولوجياً-بنظامهم، ولأغراض هذا النظام المذكورة.
يلحظ في السنوات الأخيرة عدم خروج التظاهرات الشعبية الضخمة تضامناً مع الفلسطينيين، كما كان في الماضي، يلحظ وجود نوع من الانشغال – ليس السياسي وحسب ولكن الشعبي- عن فلسطين، وذلك مؤشر خطير، على تغيب القضية الفلسطينية عن مركزية الوعي العربي، ليس على مستوى الأنظمة السياسية ولكن على مستوى الوعي الشعبي، وهذا هو الأخطر.
ولكن، لماذا حدث ما حدث؟
الجواب بكل بساطة يكمن في انشغال كل شعب عربي بجرحه النازف في البلدان التي كان لنظام إيران دور كبير في تفجير جراحاتها، بالإضافة إلى انشغال شعوب البلدان العربية الأخرى بالمعاناة الحقيقية لتلك الشعوب التي عبثت طهران وغيرها بأمنها، ناهيك عن انشغال المواطن العربي – عموماً- بلقمة عيشه، بعد أن رأى بأم عينه انهيار أحلامه القومية الكبرى.
ونقطة أخرى مهمة وهي أن شعوب المنطقة أصبحت تدرك مدى توظيف إيران للقضية الفلسطينية لخدمة مصالح نظامها وأطماعه التوسعية، وبالتالي أصبحت تلك القضية التي تمثل غاية مقدسة في الوعي الجمعي العربي، أصبحت- في نظر الكثيرين للأسف- مجرد وسيلة في يد الانتهازيين السياسيين من الفلسطينيين والعرب والإيرانيين، وهو الأمر الذي أفقدها الكثير من قداستها ومركزيتها.
وبالعودة إلى التوظيف السياسي الإيراني للقدس: يمكن القول إن النظام في طهران يعرف أن المزاج العربي سريع الانفعال، ويعرف أن الشخصية العربية شخصية عاطفية بامتياز، ويعرف أن المواطن العربي محب لفلسطين، ولذا استعمل ذلك النظام فلسطين وسيلة لصرف أنظار العرب عن عداوته الحقيقية لهم، بالاختباء وراء مزاعم عداوة إسرائيل، تماماً كما نجح في توظيف «أهل البيت» والتشيع لصالح مشروعه الإمبراطوري القومي القائم على الهوية الفارسية التي لا علاقة لها بالقدس ولا بأهل البيت أو التشيع لا من قريب ولا من بعيد.
إن حكاية «طريق الخميني إلى القدس» قد انكشفت لكل ذي عينين، بعد أن مر هذا الطريق على أجمل المدن العربية في العراق وسوريا واليمن فدمرها، دون أن يصل إلى القدس، التي لن يصل إليها لسبب بسيط، وهو أن عينه ربما كانت على مكة والمدينة بعد أو ضع يده على النجف وكربلاء دون أن يفكر في القدس وغزة.
انكشاف التكتيك الإيراني ليس الجدير بالملاحظة هنا، هذه مسألة مفروغ منها، لكن المهم هو أن استمرار هذا التكتيك هز من مركزية القدس ومحوريتها لدى الكثيرين.
ومما زاد الطين بلة أن كثيراً من التنظيمات الفلسطينية- بدلاً من تكريس جهودها لصالح مشاريع التحرير والعودة- انشغلت بالصراعات العربية العربية، وبعضها تخندقت بشكل واضح مع المشروع الإيراني الذي ظنت- هذه التنظيمات- أنه يمكن أن يساعد في مشروعها للتحرر الوطني. وهذا بدوره لم يؤد إلى مزيد من التشظيات الفلسطينية وحسب، ولكنه أثر على النظرة العربية التقليدية لفلسطين وقضيتها، ولمنظومة الكفاح الفلسطيني برمتها.
والحقيقة أن بعض التنظيمات والشخصيات الفلسطينية يمكن أن تدافع عن توجهاتها في التساوق مع السياسة الإيرانية، بالحديث عن الخذلان العربي. وهذا القول على وجاهته لا يلغي حقيقة أن فلسطين خسرت الكثير بسبب التوظيف الإيراني للقضية، فيما كسب نظام إيران الكثير من خلال هذا التوظيف.
إن المواطن العربي اليوم في اليمن أو سوريا، على سبيل المثال، يؤذيه أن يسمع فصيلاً أو قيادياً فلسطينيا يشيد بإيران التي يراها ذلك العربي في البلدين والغة في دمه، إن هذا العربي يتأذى من ذلك تأذي شقيقه الفلسطيني من سماع الإطراء لإسرائيل والثناء على سياساتها في المنطقة.
وهنا مطب آخر وقعنا فيه، وهو أن من يراه السوري- مثلاً- عدوه اللدود الذي سفك دمه لمدة سبع سنوات، قد يراه الفلسطيني صديقاً مخلصاً يساعده على إنجاز مهمة تحرير وطنه المحتل. هذه هي الكارثة، حيث لم يصبح لكل عربي «فلسطينه الخاصة»، أو «نكبته الفلسطينية الخالصة» وحسب، ولكن أصبح خصم عربي ما في سوريا- مثلاً – صديقاً لعربي آخر في فلسطين، أو هكذا يترآى.
إن استمرار متواليات التوظيف السياسي الإيراني للقدس أدى -للأسف- إلى عمليات تشويش متواصلة، وربما مدروسة، لإخراج القضية الفلسطينية من مكانتها المركزية في شعور وتفكير العرب اليوم أنظمة وشعوبا، ذلك أن الغاية النبيلة عندما تتحول إلى وسيلة، تفقد مكانتها كغاية نبيلة، وتتحول إلى وسيلة فاشلة في تحقيق تلك الغاية النبيلة.
ومع ذلك تظل القدس غاية الغايات لدى مئات ملايين العرب والمسلمين، لمكانتها الدينية غير الخاضعة للأمزجة السياسية، ولئن وظفت سياسياً، فلابد أن الوعي بمخاطر التوظيف كفيل بإسقاط كل من يتخذها شعاراً لأغراض، ولو بعد حين.
ويحسن الختام بما استهل به: إن أكبر جناية في حق القضايا العادلة أن تستغلها الأنظمة الظالمة.
- المقالات
- حوارات