
على مر التاريخ يعد الابتكار العلمي قوة أساسية في تقدم البشرية ، وقد لعبت كلٌّ من الصين والعالم العربي أدوارًا مفصلية في تشكيل مسار التطور العلمي والتكنولوجي العالمي. فقد كان العرب قديماً السباقون في علم الفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم ولهم إسهامات كبيرة فيها ، وكذلك قاد الصينيون تقدماً كبيراً في علوم المعادن والمنسوجات والعلوم الأخرى ، ولم تسهم هذه الإنجازات في التبادل الثقافي فحسب، بل ساهمت أيضًا في تحولات تاريخية كبرى.
ويظل التطور التكنولوجي مستمراً بلا بتوقف ، فعلى مدى القرون الماضية، شهد العالم ثلاث ثورات صناعية، بدأت كل منها في قطاع محدد قبل أن تتوسع عبر مختلف الصناعات، وأعادت في نهاية المطاف تشكيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للعالم. واليوم، تتكشف الثورة الصناعية الرابعة، المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة، بوتيرة غير مسبوقة. ويعتبر هذا التحول فرصة ذهبية للتعاون وتبادل المعرفة بين الدول والمجتمعات ، ليحقق الغاية الأسمى وهي أن يسهم التقدم التكنولوجي في تنمية كل البشرية دون استثناء.
صعود الجنوب العالمي ومستقبل التعاون الدولي
شهد القرن الحادي والعشرون تحولاً جذرياً في ديناميكيات القوى العالمية، حيث برز الجنوب العالمي كقوة رئيسية في التنمية الدولية. وكما جاء في البيان الصادر عن المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني لعام 2025 في الصين، يجب بناء "عالم متعدد الأقطاب متساوٍ في الحقوق والحريات والواجبات" قائم على مبادئ الحوكمة الشاملة والتضامن التكنولوجي والتعاون العالمي. في هذا السياق، تُعدّ استراتيجية الصين لتطوير الذكاء الاصطناعي نموذجاً وجسراً في آنٍ واحد، حيث تُقدّم حلولاً مبتكرة تُعزز الشمولية التكنولوجية والتعاون الدولي.
يفتح هذا التحول آفاقاً جديدة للتعاون التكنولوجي الصيني العربي. وتُدرك كلٌّ من الصين والعالم العربي أن الابتكار محركٌ للتنمية المستدامة ، وتُعطيان الأولوية للتحول الاقتصادي القائم على التكنولوجيا. وبصفتها شريكاً رئيسياً في مبادرة الحزام والطريق، تعمل الدول العربية بنشاط على دمج التقنيات الناشئة لتعزيز الكفاءة الصناعية ورقمنة اقتصاداتها. وتُؤكد الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية ورؤية 2030، والبرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات العربية المتحدة، على أهمية الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في استراتيجياتها الوطنية. وتتوافق هذه الجهود بشكل وثيق مع استراتيجية الصين لتطوير الذكاء الاصطناعي، مما يتيح فرصًا لتعاون أعمق في مجالات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والاقتصادات الرقمية، والتي تُسهم جميعها في بناء مجتمع عالمي أكثر ترابطًا وتقدمًا تكنولوجيًا.
من شركاء الطاقة إلى شركاء التكنولوجيا: فصل جديد في العلاقات الصينية العربية
ركز التعاون الصيني العربي تاريخيًا على الطاقة والبنية التحتية والتجارة لاسيما ومع تحول التكنولوجيا إلى القوة الدافعة الجديدة للتنمية العالمية، يتجه الجانبان نحو شراكة تتمحور حول التكنولوجيا. وقد تجلى هذا التحول في المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني العربي في مايو 2024، حيث طرح القادة "إطارًا للتعاون في خمسة ركائز أساسية " لتوجيه تعاونهم في السنوات القادمة. ويتمثل جوهر هذا الإطار في التعاون القائم على الابتكار، مما يُظهر التزامًا مشتركًا بتطوير الاقتصادات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، واستكشاف الفضاء.
لا يُعد هذا التطور في العلاقات الصينية العربية دليلًا على الثقة المتبادلة فحسب، بل يُعد أيضًا خطوة مهمة نحو تعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي الذي سيعود بالنفع على العالم أجمع.
الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر والمنظومة البيئية الصينية العربية للذكاء الاصطناعي
مع تعميق التعاون بين الصين والدول العربية في مجال الذكاء الاصطناعي، تلعب تكنولوجيا المصادر المفتوحة دورًا حاسمًا في ضمان بقاء تطوير الذكاء الاصطناعي متاحًا وأخلاقيًا وشاملًا. تُوفر مبادرات كـ DeepSeek، نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني مفتوح المصدر، للباحثين والشركات والمؤسسات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي أدوات متطورة، مع تعزيز بيئة أكثر انفتاحًا وتعاونًا في هذا المجال.
من خلال تعزيز تبادل المعرفة وبناء القدرات في مجال الذكاء الاصطناعي، تعمل الصين والعالم العربي على تمكين شبكة أوسع من مطوري الذكاء الاصطناعي ورواد الأعمال من المساهمة في مستقبل الذكاء الاصطناعي. ويُساعد هذا النهج الدول النامية على الوصول إلى نماذج ذكاء اصطناعي عالية الجودة وتخصيص تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتلبية الاحتياجات المحلية، سواء في مجال الرعاية الصحية أو التمويل أو المدن الذكية أو الاستدامة البيئية.
ويمثل التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر بين الصين والدول العربية خطوة نحو منظومة بيئية للذكاء الاصطناعي تُعطي الأولوية للتقدم المشترك. ومن خلال التركيز على تطوير التكنولوجيا الشاملة، تضمن هذه الشراكة أن يكون الذكاء الاصطناعي بمثابة قوة دافعة للنمو الاقتصادي والصالح الاجتماعي والاستقرار العالمي.
نهج موحد لحوكمة التكنولوجيا العالمية
مع استمرار التطورات التكنولوجية في تشكيل المشهد الدولي، تتشارك الصين والدول العربية رؤيةً لحوكمة تكنولوجيا مسؤولة وعادلة. فقد أطلقت الصين في عام ٢٠٢٣ ، مبادرة حوكمة الذكاء الاصطناعي العالمية، داعيةً إلى تكافؤ فرص الوصول إلى تطوير الذكاء الاصطناعي وممارساته الأخلاقية. وأكد إعلان بكين، الذي اعتُمد في منتدى التعاون الصيني العربي العاشر، دعم الدول العربية للجهود العالمية لضمان بقاء التكنولوجيا أداةً للتقدم البشري لا مصدرًا للانقسام.
ينبغي أن تُوحّد التكنولوجيا لا أن تُفرّق. ومن خلال تعزيز الشمولية التكنولوجية، وتعزيز التعاون متعدد الأطراف، وضمان الوصول العادل إلى الذكاء الاصطناعي والموارد الرقمية، كما تُسهم الصين والعالم العربي في بناء منظومة تكنولوجية عالمية أكثر توازنًا وعدالة، وتتم مشاركة الابتكارات فيها من أجل مصلحة الانسان.
تُحدث التكنولوجيا تحولاتٍ في العالم بوتيرةٍ غير مسبوقة، ويُسهم التعاون الصيني العربي في هذا التحول العالمي بطرقٍ فعّالة. ومع استمرار صعود دول الجنوب العالمي، فإنها تُشكّل بشكل متزايد عالمًا متعدد الأقطاب وشاملًا تكنولوجيًا، حيث يُفيد التقدم والابتكار كل البشرية.
ومن خلال التعاون فيما بين بلدان الجنوب العالمي في الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي، والتعاون في مجال المصادر المفتوحة، لا تُعزز الصين والدول العربية قدراتها التكنولوجية فحسب ، بل تُسهم أيضًا في بناء مشهد رقمي عالمي أكثر توازنًا وشمولًا. وتعد جهودهما المشتركة منظومةً ابتكاريةً تعمل فيها الدول معًا لتتبادل المعرفة، وتضمن أن يخدم التقدم التكنولوجي البشرية جمعاء.
من خلال تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي العالمية، ودعم الحوكمة الأخلاقية للتكنولوجيا، وبناء مجتمع تكنولوجي مترابط، تعمل الصين والعالم العربي على تأسيس مستقبل تُشكل فيه التكنولوجيا جسرًا بين الثقافات والاقتصادات والشعوب، مما يضمن استدامة التقدم وإتاحته للجميع.

- المقالات
- حوارات