من اليمن وحتى سوريا.. من يقوم بإحصاء قتلى الحرب وكيف يعملون؟
الميثاق نيوز – متابعات - تعتبر عملية إحصاء الجثث في أوقات الحرب والصراعات أمرًا ضروريًا، لكنَّها عادة ما تكون صناعةً مربكة وسيئة السمعة.
إحصاء الجثث مسألة مهمة لأسباب بديهية. إذ توفِّر الأرقام نقطة مرجعية أخلاقية، تخبرنا عن حجم الصراع، وكذلك عمَّا إذا جرى استهداف مدنيين وسط الحرب، وبأي طريقة. توفِّر الأرقام أيضًا أدلة يستخدمها المدافعون عن حقوق الإنسان في التجمّعات الدولية، وتساعد على وضع سياسات للإغاثة في حالات الطوارئ.
وفي مقالٍ نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية، يطرح كاتب المقال بيتر بومونت نظرةً أخرى على هذه الصناعة التي تتولى أمرها منظمات دولية.
عمل بيتر بومونت مراسلًا في عديدٍ من مناطق الصراع العالمية في أفريقيا وآسيا، وله كتاب بعنوان The Secret Life of War: Journeys Through Modern Conflict. وفي مقاله في صحيفة «الجارديان»، يرى بومونت أنَّ عملية إحصاء الجثث تتحوَّل إلى مسألةٍ سيئة السمعة حينما تكتسب أبعادًا سياسية، فتتحوّل إلى سلاحٍ يُستخدم لأغراض بعينها، وهذا بالضبط ما يحدث عندما تعلق هذه العملية بين توجهاتٍ سياسية متصارعة.
تشير الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة إلى أنَّ عدد القتلى في اليمن، في شهر مارس (آذار) 2018، وصل إلى 6592 قتيلًا، بالإضافة إلى 10.470 جريحًا. أما على الناحية الأخرى، هناك منظماتٌ دولية تقول إنَّ متوسط عدد القتلى هو ما بين 65 إلى 80 ألف قتيل. وكل جانب يتهم الطرف الآخر بزيادة أو إنقاص عدد القتلى، ليتوافق مع توجهاته السياسية.
يوضح بومونت أنَّ المشكلة هنا، مثلما يظهر في الصراع الدائر في اليمن، وكما ظهر من قبل في العراق، أنَّ حساب تكلفة الحرب هي مسألة أبعد ما تكون عن العلم الدقيق، وبالذات عندما يتعلق الأمر بحساباتٍ مشحونة بالفعل في كثيرٍ من الأحيان بشأن رقمٍ يمكنه أن يشمل عدد الضحايا المباشرين للعنف، وفي نفس الوقت أولئك الذين قضوا نحبهم نتيجةً لآثار الصراع الجانبية، مثلما يحدث في حالات الوفاة نتيجة لصعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية.
ووفقًا للكاتب، جعل هذا مسألة حساب ضحايا الصراع ساحة معركة في حد ذاتها، من العراق إلى دارفور ومرورًا بجمهورية الكونغو الديموقراطية، والآن اليمن.
وحسبما يورد المقال المنشور في «الجارديان»، فإن المسألة تصدرت المشهد مرةً أخرى هذا الأسبوع، وعلى خلفية التدخل المتحيّز وغير الدقيق لجراهام جونز، ممثِّل حزب العمال البريطاني، ورئيس لجنة التدقيق في مبيعات الأسلحة البريطانية في البرلمان. أوضح تدخله دون قصدٍ منه مدى صعوبة إحصاء معدل الوفيات في الصراع، وفي هذه الحالة تحديدًا، المدنيين الذين قضوا نحبهم بسبب غارات التحالف السعودي الجوّية.
فبينما كان جونز يتهم المنظمات غير الحكومية الدولية بعدم النزاهة في تقاريرها، فإنَّه أبرز توجهاته الشخصية بمحاولة إظهار إيران الداعمة للحوثيين باعتبارها المعتدي الرئيسي.
قال جونز في حديثه، مظهرًا الحنق الشديد على جماعات الإغاثة: «إنَّه لمن المخزي كيف أن المنظمات غير الحكومية، والتنظيمات اليسارية المجنونة، رفضت دعم موقف الأمم المتحدة المتخذ بالإجماع. نحن بحاجة ماسة إلى السلام في اليمن، لا حلول خيالية يطرحها ساكنو المنازل الأوروبية الآمنة».
في الوقت الذي أشار فيه جونز راضيًا إلى أنَّه يشعر بالمزيد من الراحة بسبب انخفاض عدد الإصابات في السجلات التي يقدمها «الجنرالات ووزارة الدفاع»، فإنَّ كاتب المقال يرى أنَّه من المثير للتأمل كيف أنَّ البنتاجون، على الناحية الأخرى من الأطلسي، كان قلقًا من هذه المسألة بشكلٍ كافٍ ليُطلق نشاطًا رئيسيًا، يهدف إلى فهم السبب الذي يجعل حساباته عن عدد القتلى المدنيين أقل بكثير مما يظهر في تقارير مجموعات مراقبة ذات سمعة جيدة.
لكن إذا كانت تعليقات جونز تبدو متحيّزةً بشكلٍ فج، أو أنَّها تمنح قوات التحالف بقيادة السعودية فرصة واضحة للإفلات من العقاب عن مسئوليتها في ما يتعلق بالخسائر البشرية في الحرب، فإنَّ بومونت يوضِّح أنَّ هذه التعليقات على الأقل تُبرز مشكلةً أعمق في اليمن: التفاوت الضخم بين تقديرات عدد ضحايا الحرب.
على سبيل المثال، في أواخر السنة الماضية، كانت هذه التقديرات تتراوح بين 10 آلاف قتيل، وستة أضعاف هذا الرقم تقريبًا. قليلون هم من صدقوا التقدير الأقل، في الوقت الذي ادعت هيئة إنقاذ الطفولة (Save The Children) من جانبها أنَّ 85 ألف طفلٍ تحت سن الخامسة كانوا وحدهم ضحايا للموت جوعًا، خلال 3 سنوات من الصراع.
إذًا. من المُخطئ هنا؟
يوضح بومونت أنَّه في الحقيقة، أي شخصٍ قد درس أرقام سوء التغذية والوفيات في اليمن (أو سابقًا في العراق)، يعرف أنَّ الأرقام التي تُطرح للتداول العام تشمل مجموعة واسعة من التقديرات.
يضيف الكاتب أنَّه لو كان جونز على صواب في نقطة معينة، فهي أنَّ بعض المنظمات غير الحكومية متورطة بالفعل في المبالغة في تناول الأحداث، والتضخيم من حجم المعاناة، وهذا بسبب أنَّها في بعض الأحيان تحاول تقديم الأزمات بصورة أكثر درامية، بغرض تسليط الضوء على أهمية تدخلاتها الخاصة.
وحسبما يرى بومونت، المشكلة الحقيقية ليست ببساطة سوء النية، لكن ندرة الأدوات المُطبقة لتقدير معدلات الوفيات، وبالأخص نقص القواعد الأساسية للمقارنة، الذي قاد في الماضي إلى تخميناتٍ يمكن وصفها بأنَّها «فوضى إحصائية» في أحسن التعبيرات.
أدى عدم وجود بيانات تعداد واضحة ومستمرة أو تقديراتٍ للوضع الصحي في العديد من الصراعات المعاصرة إلى صعوبة إجراء تقييمٍ فعال للزيادات الحقيقيّة في معدل الوفيات.
ووفقًا لبومونت، ترك هذا الوضع كلًا من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية معتمدة على أنظمة ومنهجيات أكثر عرضة للخطأ والتحيزات والتلاعب. والمثال الأبرز على ذلك في رأيه كان استخدام عمليات المسح المنزلي العشوائية، المصممة لتحديد الوفيات في الصراع جراء أسبابٍ ثانوية.
بعض هذه الحالات بالغة الوضوح، مثل المواقع التي لا يمكن زيارتها بسبب المخاوف الأمنية، والتي تترك فجواتٍ في البيانات، أو تتطلب، كما هو الحال في اليمن، تدخل مؤسساتٍ متحالفة مع أحد الأطراف المتصارعة لملء الفجوات. وهذا يترك مجالًا لتشويه الإحصاءات عمدًا.
يمكن كذلك حسبما يعتقد بومونت أن تؤدي الاعتبارات السياسية التي تحكم المنظمات العاملة في الميدان (خصوصًا وكالات الأمم المتحدة) إلى مقايضاتٍ مزعجة، حتى لمجرد الوصول إلى أماكن النزاع.
ولعل أصعب ما في الأمر حسبما يشير الكاتب هو التحيز غير المقصود في أخذ العينات. كانت هذه قضية مستمرة في تقديرات مجلة الصحة العالمية «ذا لانسيت» للوفيات التي تزيد على معدلات الوفيات الطبيعية في العراق. اتُهمت المجلة بأنها لم تضع في اعتبارها «تحيُّز الشوارع الرئيسية»، إذ قال منتقدون إنَّ التقدير اعتمد بشكلٍ كبير على مواقع تشهد وتيرةً أكبر من العنف، وهو ما نفاه المؤلفون.
ليس هذا جديدًا على أولئك الذين امتهنوا دراسة تقديرات الوفيات. فهم بالفعل حذروا كثيرًا من قابليتها لسوء التفسير والتلاعب. ففي عام 2005، حذر فرانشسكو تشيتشي وليز روبرتس، اللذان درسا هذا الموضوع، من مشاكل عديدة من هذا النوع، في ورقةٍ لشبكة الممارسات الإنسانية.
بحسب بومونت، حذر تشيتشي وروبرتس من أنَّه عندما يتعلق الأمر بالأزمات الإنسانية، سواءٌ التي تحدث لأسبابٍ طبيعية، أو من صنع الإنسان مثل الحروب والصراعات، فإنَّ بيانات الوفيّات يسهل تعرضها لسوء الفهم أو للتلاعب. وأضافا: «سيجادل كثيرون بأنَّ السنوات الأخيرة شهدت استخدامًا متزايدًا للإغاثة باعتبارها وسيلة لممارسة الضغط السياسي العالمي، أو تحسين صورة القوى المستعمرة بين السكان المحليين».
لهذا يرى الكاتب أنَّ تدخل جونز، للمفارقة، هو تذكيرٌ عاجل ومتأخر بأنَّ إحصاء الضحايا يجب أن يكون مسألةً احترافية وغير منحازة. وأن كل الأطراف المشتركة، سواءٌ كانت منظمات غير حكومية، أو وكالات للأمم المتحدة، أو برلمانيين من ذوي التأثير، لا بد أن تكون واضحةً تمامًا، ليس فقط حول ما هو معروف عن عدد القتلى في النزاعات، لكنَّ أيضًا حول حدود تلك المعرفة.
وهذا لأنَّ البديل عن ذلك الوضوح، حسبما يجادل تشيتشي وروبرتس، سيكون احتمالًا قاتمًا، سواءٌ كانت المشكلة هي المبالغة في التقديرات أو العكس.
أو كما يقول الكاتبان: «الممارسات العلمية غير المنضبطة يمكن أن تؤدي إلى سقوط ضحايا من البشر، عندما يقرر المانحون أو الوكالات أن يُخفضوا أو يلغوا نشاطاتهم المتعلقة بإنقاذ الحياة، أو أن يخصصوها بشكلٍ غير متناسب مع الوضع».
- المقالات
- حوارات