لقد هزّت عملية اغتيال المصور الصحافي اليمني نبيل القعيطي الأوساط الحقوقية الدولية، عملية لم تعرف إلى الآن الجهة التي كانت وراءها تخطيطا وتنفيذا، لكن الحدث في حد ذاته لا يعد غريبا في اليمن الحافل تاريخه بلغة الدم والاغتيالات السياسية الغامضة التي أصبحت أكثر حدة وأكثر تعقيدا خاصة بعد عام 2011 بعد إسقاط نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
عدن- أعادت عميلة اغتيال المصور الصحافي اليمني نبيل القعيطي على أيدي مسلحين مجهولين في عدن تسليط الضوء على تاريخ طويل ومعقّد من الاغتيالات السياسية في اليمن التي عادة ما كان المستفيد منها معروفا، ولكنها انتهت كجرائم سياسية غامضة من دون الإعلان قطّ عن فاعلها.
تزامنت عملية الاغتيال التي طالت القعيطي وقوبلت بإدانة شعبية وإعلامية واسعة مع إحياء أنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذكرى التاسعة لمحاولة اغتياله التي جرت في خضم الاحتجاجات ضده في الثالث من يونيو 2011 عبر قنبلة وضعت في منبر مسجد دار الرئاسة بصنعاء الذي كان يتواجد فيه لأداء صلاة الجمعة مع أركان الدولة اليمنية آنذاك.
قتل سياسي متجذّر
يقول الصحافي والباحث اليمني أحمد عباس، إن الاغتيالات في اليمن نشأت مبكرا مع تصاعد وتيرة الصراعات السياسية التي برزت في أعقاب الإطاحة بالحكم “الإمامي” في اليمن ودخول البلد في أتون صراعات محلية وإقليمية أثرت على مسيرته السياسية والتنموية، وكانت الوسيلة الأبرز للتخلص من الخصوم بين الفرقاء هي التصفية الجسدية، التي مارستها كل التيارات.
ويشير عباس في تصريح لـ”العرب” إلى أبرز حوادث الاغتيالات ومن ذلك اغتيال القائد العسكري عبدالرقيب عبدالوهاب أحد أبطال فك حصار صنعاء إثر خلاف مناطقي بين الضباط على الأرجح في ستينات القرن الماضي، كما شهدت فترة السبعينات حوادث اغتيالات شهيرة بدأت باغتيال السياسي البارز محمد أحمد النعمان في بيروت عام 1974، وقتل الشيخ القبلي والسياسي أحمد عبدربّه العواضي في عملية مدبرة، وصولا إلى حادثة الاغتيال الأشهر التي أودت بحياة الرئيس إبراهيم الحمدي وأخيه عبدالله في أكتوبر 1977، وبعدها بأشهر قليلة تم اغتيال الرئيس أحمد الغشمي في قلب صنعاء.
شهادات
ويضيف “كما اغتيل في نهاية السبعينات في العاصمة البريطانية لندن القاضي عبدالله الحجري وزوجته، ثم جاءت فترة الثمانينات المستقرة نسبيا ولكنها شهدت أيضا اغتيالات متبادلة ذهب ضحيتها عدد من المشائخ والقادة أثناء أحداث ما يعرف بالجبهة في المناطق الوسطى.
ويستطرد عباس في حديثه لـ”العرب” بالإشارة إلى أن الوضع في جنوب اليمن لم يكن بأحسن حال في ما يتعلق بالتصفيات ذات الطابع السياسي، فقد افتتح العام 1970 بإعدام فيصل عبداللطيف أحد رموز التحرير في الجنوب، وتلت ذلك حادثة الطائرة الشهيرة في العام 1973 التي ذهب ضحيتها عدد من القيادات الوطنية في الجنوب، واغتيال الرئيس سالم ربيع علي وصولا إلى أحداث يناير 1986 الشهيرة في عدن التي ذهب ضحيتها الآلاف على رأسهم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر والعشرات من القيادات السياسية والعسكرية.
أخذت الاغتيالات السياسية منحى جديدا كما يقول باحثون يمنيون في أعقاب الإعلان عن الوحدة اليمنية في 1990، حيث عاودت ظاهرة التصفيات السياسية من جديد، وظهر لاعبون أشد جرأة على القتل، يستندون لأيديولوجيات دينية تبرر أفعالهم وتبيّضها، في تزاوج جديد بين التبريرات السياسية والدينية كان ضحيتها هذه المرة العشرات من قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني الذين تعرضوا لسلسلة منظمة من الاغتيالات في شوارع صنعاء من قبل عناصر مسلحة تؤكد بعض المصادر أنهم ينتمون لما يعرف بالأفغان العرب العائدين من أفغانستان الذين تم توظيفهم لأداء مهمات قذرة لصالح أطراف سياسية.
وتسببت عمليات الاغتيال تلك التي طالت شخصيات بارزة وأجّجت الخلافات بين “شركاء الوحدة” ودفعت باتجاه حرب صيف 1994 في نهاية المطاف، ومن أبرز الشخصيات التي تمت تصفيتها في تلك الفترة السياسي حسن الحريبي ومستشار وزير الدفاع وعضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي ماجد مرشد، كما تعرض كبار القادة الجنوبيين لمحاولات اغتيال بدءا من علي سالم البيض مرورا بياسين سعيد نعمان وسالم سالم محمد.
وتؤكد بعض المصادر أن عدد الذين تعرضوا للاغتيال في تلك الفترة أكثر من 160 من الشخصيات السياسية والعسكرية الجنوبية المنتمية للحزب الاشتراكي اليمني، كما تؤكد بعض المصادر التابعة للحراك الجنوبي أن سلسلة الاغتيالات المنظمة تلك شهدت موجة ثانية بعد تلك الفترة تعرض خلالها العشرات من الضباط الجنوبيين لاغتيالات غامضة، تم تحميل مسؤوليتها للتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة ولكنها لم تخل يوما من الأبعاد السياسية.
ويرى الأستاذ الجامعي الجنوبي المقيم في هولندا الدكتور سعيد الجريري في تصريح لـ”العرب”، تعليقا على الاغتيالات التي شهدتها فترة ما بعد إعلان الوحدة أن “الاغتيال توصيف غير دقيق لاستهداف قادة جنوبيين في صنعاء وغيرها، معتبرا أن تلك لم تكن اغتيالات نفذها مجهولون، بل ‘تصفيات جسدية ميدانية’ اتخذها الطرف ‘الشمالي’ في الوحدة منهجاً لإخراج الطرف ‘الجنوبي’ من الشراكة السلمية، ثم تطور الاغتيال من الإفرادي إلى الجماعي بحرب 1994 التي لم تنته حتى الآن، فما زال مخطط إعادة هيمنة الشمال على قرار الجنوب بواجهات جنوبية متواطئة مستمرا”.
ويضيف الجريري “باستثناء من قتلوا في المعارك، فإن التصفيات خارجها طالت المئات من الكوادر والشخصيات الجنوبية المهمة عسكرية ومدنية ودينية وقبلية”. ويؤكد أن “ما يختلف فقط هو من يُوكل إليه التنفيذ، بحسب كل مرحلة. ولو تمت مقارنة نسب ضحايا التصفيات هنا وهناك، لصُدم المتابع، بأن النسبة الأعلى جنوباً، لأن ملف التصفيات ما زال مفتوحاً، ولن يغلق إلا بعودة كل من الدولتين إلى سابق حدودهما، وهذا ما يدركه الجنوبيون بوعي، فما زالت الفتوى الدينية – السياسية بتصفية كفاءاتهم مفعّلة ميدانياً، وما زال واضعوها يترصدون كل جنوبي حر مؤثر”.
لغة الدم
مع تصاعد التوتر السياسي في المشهد اليمني كانت وتيرة الاغتيالات السياسية تتصاعد أيضا، وقد كان اغتيال السياسي اليمني اليساري الأبرز جارالله عمر أثناء إلقائه كلمة في المؤتمر العام لحزب التجمع اليمني للإصلاح في 2002، مؤشرا على موجة قادمة من العنف، فقدت فيها النخبة السياسية اليمنية ثقتها المطلقة ببعضها، حتى باتت توجه الاتهامات وتدور الشبهات حول وفاة أي شخصية سياسية في حادث عرضي أو حتى نتيجة المرض، ومن أبرز الشخصيات التي يدور الحديث حول تعرضها للاغتيال بحادث مدبر، السياسيان اليمنيان البارزان يحيى المتوكل ومجاهد أبوشوارب اللذان توفيا في حوادث سيارات، كما تم التكهن من قبل بعض الأطراف بوجود خلفية سياسية خلف وفاة الصحافيين البارزين عبدالعزيز السقاف وعبدالله سعد.
وفي عام 2004 نجا رئيس مجلس النواب اليمني وشيخ قبيلة حاشد عبدالله بن حسين الأحمر من محاولة اغتيال في السنغال كما يقول مقربون منه. وخلال فترة التوتر السياسي التي بلغت ذروتها بين الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وأحزاب اللقاء المشترك في 2006، ظلت وسائل الإعلام التابعة للمؤتمر والمشترك تتبادل الاتهامات حول عمليات اغتيال فاشلة، غير أن الحدث الأبرز في سياق هذا التوتر المتصاعد تمثل في محاولة اغتيال صالح وأركان حكمه في عملية تفجير طالت مسجد دار الرئاسة في 3 يونيو 2011 في أوج الصراع بين صالح ومعارضيه خلال موجة الاحتجاجات التي تصدرتها أحزاب اللقاء المشترك.
وأصيب الرئيس السابق بإصابات بليغة نقل على إثرها إلى العاصمة السعودية لتلقي العلاج، فيما أصيب وقتل عدد من المقربين منه من أبرزهم عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى الذي قتل في الحادث الذي اتهمت وسائل إعلام المؤتمر حزب الإصلاح بالوقوف وراءه، من خلال تجنيد عدد من عناصر الحرس الرئاسي.
ويقول العميد عصام دويد وهو قائد الحماية الجسدية للرئيس علي عبدالله صالح وأحد جرحى هذا الحادث في تصريح لـ”العرب” في الذكرى التاسعة لهذه العملية، إن جريمة مسجد دار الرئاسة لم تكن استهدافا للرئيس علي عبدالله صالح والأشخاص الذين كانوا معه بقدر ما كانت استهدفا للدولة بكل أركانها وللنظام السياسي والأمني والاستقرار والحرية والتنمية استهدفت جميع الشعب اليمني، حسب تعبيره.
ويضيف “لم تكن هذه الجريمة مقتصرة على أركان نظام صالح الموجودين بدار الرئاسة حينها، بل كانت جريمة دولية عابرة ومنظمة ولا بد أن تكون من ضمن القضايا التي تنظر فيها محكمة الجنايات الدولية باعتبارها جريمة ليست محلية فحسب، بل استهدافا لدولة وشعب ونظام كان قائما وما يحصل اليوم في اليمن ما هو إلا تبعات لجريمة دار الرئاسة”.
وعن مآلات التحقيق في هذا الحادث، يشير دويد إلى أن جميع ملفات هذه الجريمة موجودة ومتكاملة الأركان لدى الجهات المختصة لدى المحكمة والنيابة الجزائية المتخصصة وبإشراف جميع الأجهزة الأمنية حينها، لكن الإجراءات توقفت بما في ذلك استدعاء الضالعين في الجريمة ممن لديهم حصانة من مجلس النواب وبعض القيادات العليا في بعض الأحزاب نتيجة سيطرتهم على المحاكم والنيابات بما في ذلك المحكمة العليا آنذاك.
علل الأيديولوجيا
أخذت الاغتيالات السياسية بعد عام 2011 طابعا أكثر حدة ودموية مع تصاعد المد الأيديولوجي، وأخذت الاغتيالات بعدا أكثر عبثية، وقد تعرض أربعة من السياسيين اليمنيين المحسوبين على الجماعة الحوثية للاغتيال في وقت انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، حيث قتل ثلاثة من ممثلي الحوثي في الحوار وهم عبدالكريم جدبان وعبدالكريم الخيواني وأحمد شرف الدين، كما تم اغتيال السياسي البارز محمد عبدالملك في نوفمبر 2014، وكشفت الجهات الأمنية حينها عن ضبط خلية تتبع تنظيم القاعدة في منطقة أرحب شمال صنعاء كانت تقف خلف تلك الاغتيالات.
وفي تلك الفترة تم الكشف كذلك عن محاولة ثانية لاغتيال الرئيس السابق علي عبدالله صالح من خلال نفق تم حفره أسفل منزله في صنعاء، وتشير بعض المعلومات إلى تورّط الحوثيين بالحادث، حيث فر المتورطون بالعملية إلى معقل الحوثيين في صعدة.
وفي عام 2017 عاد الحديث بقوة عن الاغتيال السياسي بعد وفاة الصحافي الاستقصائي محمد عبده العبسي مسموما في خضم عمله على تحقيقات حول مافيا الشركات النفطية في اليمن، ووجهت أصابع الاتهام للحوثيين في هذه العملية التي تبين أن خلفها عمليات فساد هائلة كان يراد إخفاؤها عبر قتل الشهود.
ومع تصاعد الصراعات السياسية التي كان معظم أطرافها منذ عام 2015 مكونات ذات خلفيات أيديولوجية، شهد اليمن موجة من الاغتيالات الجديدة التي استهدفت قيادات عسكرية وسياسية وقبلية تعارض هيمنة التيارات العقائدية على المشهد السياسي اليمني وقد كانت مدينة تعز مسرح أبرز عمليتي اغتيال لمناوئين لتيار قطر والإخوان، حيث تم اغتيال العميد رضوان العديني قائد لواء العصبة في منتصف العام 2018، وتلاه اغتيال العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع في ديسمبر 2019، ويعتقد مراقبون أن عمليات الاغتيال تلك ذات البصمة الأيديولوجية تستهدف إزاحة المناوئين وتمهيد المسرح لسيطرة مكونات بعينها.
ويرى مجيب المقطري، المسؤول الإعلامي للتنظيم الناصري بتعز، أن الاغتيالات السياسية واحدة من أبرز معوقات التحول نحو الدولة في اليمن، لافتا إلى أن اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي وشقيقه عبدالله الحمدي في 11 أكتوبر 1977 وما تلاه من اغتيال لقادة حركة 15 أكتوبر 1978 الناصرية كان سببا في تعثر وإجهاض مشروع الدولة اليمنية الحديثة وانتكاسة حضارية وقيمية للهوية اليمنية الحاكمة والمتحكمة معا.
ويستشهد المقطري في تصريح لـ”العرب” بإحصائية أوردها الكاتب اليمني قادري أحمد حيدر تقدر عدد عمليات الاغتيال السياسي في عام واحد فقط بأكثر من مئة عملية. واعتبر المقطري أن اغتيال العميد عدنان الحمادي الذي كان محسوبا على التيار الناصري في اليمن كان نتيجة تمسكه بمشروع الدولة ورفض الانتماء لأجندة الجماعة وهو ما اعتبره قاتلوه جريمة لا تغتفر.
وأردف المقطري “جريمة العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع في مطلع ديسمبر الماضي تشير إلى أي مدى وصل الإفلاس في الخصومة السياسية لتطال بطل التحرير الأول في تعز، صاحب الطلقة الأولى في وجه الانقلاب الحوثي، كما تؤكد جريمة الاغتيال حجم المأساة التي وصلت إليها البلاد وخصوصا أن التصفية الجسدية للحمادي جاءت عقب محاولة اغتيال معنوية عبر شيطنة الخصوم تمهيداً لاغتيالهم الجسدي، بل إنه تم توظيف كل القدرات المادية والبشرية والإعلامية ومنابر الجوامع والساحات العامة، وتسخير الأجهزة الخاصة أو ما يطلق عليها ‘الشعبة الداخلية’ في أحد التنظيمات لاستهداف هؤلاء الخصوم ومن بينهم الحمادي”.
- المقالات
- حوارات