لطالما قال الرئيس هادي في خطاباته السابقة إن الحوثيين تكتل سُلالي يدّعي حقًا إلهيًا في السلطة والثروة، قالها "صالح" و"علي محسن" أيضًا، وأدار الأخيران نصف حرب عليهم في جبال صعدة، وفي غرة العام 2011م، كان الحوثيون يلعبون النرد مع شباب الأحزاب في صنعاء!، ويؤسسون معًا ملحمة إسقاط النظام. انضم إليهم "محسن" قاصدًا حمايتهم جميعًا في لحظة حُب مفاجئ، وفي مقيل "حسين الأحمر" كان حسن زيد يتحدث عن الدولة المدنية!، عجوز كثّ الشعر، رث الأخلاق يسخر من شيخ أصيل في مجلسه، هتف الأحمر بعد أيام: يسقط صالح وكلنا مع الدولة المدنية!، وبطرف عينه اليسرى رأى شرف المتوكل يصفق بهدوء لخطابه "التاريخي"، فزاد حماس "حسين" وأعلن "أن الانتماء إلى نظام يحكمه رئيس يمني لا يُشرِّفه". بعد انفضاض الجمع، أمسك المتوكل ذراع الشيخ بقوة وهزّه إلى صدره متمتمًا بحرارة: لقد تجاوزت والدك وأنت تصنع التاريخ!. بعد عامين صاح "شرف المتوكل" على صوت انهيار منزل "حسين": باي باي يا حسونه. وفرّ "حسونة" إلى صنعاء، ومنها إلى "الدوحة". وما يزال هناك!
كان الشيخ "عبدالله الأحمر" مدفونًا على مقربة من لحظة العناق، ولو كان حيًا لصفع نجله بلا تردد. الشيخ صادق الأحمر قال في حوار مع قناة الجزيرة: أنه زيدي!، ولما جاء "الإمام" على الصيغة الزيدية متأبطًا بغلته وشرّه، خرج "الأحمر" الطيب ليمنعه، فدخلت بغلة "السيد" منزله وشاهد اليمنيون لحظة "انكسار" الشيخ الذي صدّق أنه "زيدي" بحكم الجغرافيا المسكونة بالغيبة وقلة الوعي.
ثمن "الزيدية" باهض، انتماء خاسر للكرامة والحضارة، وانتهاء مريع للهوية اليمنية بإضافة حرف الألف إليها لتصبح "إيمانية"!، الإيمان الذي يراه الهاشميون محصورًا في الحُكم فقط، إيمان منزوع عن الشورى والحق والعدالة، إيمان السُلطة التي "لا يجوز" أن تغادر "النسل الشريف".
من هنا سأحكي باقتضاب عن حدود "اللقب والهوية"، المنطقة الملتهبة التي تَعَرضنَا فيها إلى احتيال لغوي ماهر، وما انتجته من صراع اللحظة الأولى قبل ألف سنة إلى اليوم. ببساطة: لندع عبدالملك الحوثي يُعرّف عن تسلسله العائلي حتى آخر جدّ يعرفه!، سيكتب قائمة من الأجداد الذين ينتهون إلى "علي بن أبي طالب"، حسنًا: ليكن "عليًا" جدّه!، السؤال: أين لقبه "الحوثي" ضمن تلك الأسماء؟ لا يوجد!، كيف تلبّسه، إذا ما عرفنا أن اسم أو صفة الحوثي نسبة إلى يمني شهير يدعى "حوث بن جشم"؟، الإجابة سهلة: لقد سرقه جدّه ليمنح نفسه غطاءً يمنيًا، لكنه لم يكن هوية حقيقية وولاءً صادقًا لليمن يعيش فيها مواطنًا طبيعيًا، فالتخلي عن "الهاشمية" يعني نهاية "الوظيفة المُقدّسة"!.
تنسحب كل الألقاب التي تدور كعائلات هاشمية في مجتمع لم يكن قرشيًا، بل سبئيًا، مجتمع مفتوح بلا حدود سياسية، بل حدود قبلية استطاعت انتاج دولة في مفهومها القديم، ممالك متعددة جرت عليها سُنن القوة والضعف، في ذلك العهد القديم وصل الهاشميون، ثم العثمانيين والأكراد، وبقي كثير من الأحباش في مناطق أطلق عليها مُدُن "العبيد"، وكانت صنعاء مدينة مفتوحة تمارس الحضارة برقة أنثى محتشمة، بعد قرون من البقاء، تناسل المهاجرون إلى اليمن من مختلف الأعراق والقوميات، وصاروا يمنيين بحكم الأرض والهوية، وأصبحت حضارة سبأ بفروعها جزءًا من تاريخهم الوطني، وإرثهم. وُلِدوا يمنيين وعاشوا كذلك، إلا الهاشميين، صنعوا أردية خاصة بهم، وتميزوا بألوان خضراء أو سوداء، وعمائم خاصة، وتظللوا بالدِين ليحمي وجودهم الرافض للذوبان المفترض في مجتمع صار الجميع فيه يمنيًا كهوية أمّ، تتفرع عنها هويات صغرى تُمثّل قبائلهم "حاشدي، بكيلي، خولاني وغيرها". ثم هويات أصغر تنطق بها الألقاب لتأطير العائلات في رحم واحد.
الهوية الصغرى وهي ألقاب العائلات تتشابه في مناطق عديدة كلقبي مثلًا، أجده في إب وعمران، وفي مِصر أيضًا، لكني لا أشعر بأي انتماء إليهم رغم أننا نتشارك لقبًا واحدًا!، بقايا الأتراك والأكراد وغيرهم في اليمن لا يشعرون بأي انتماء اليوم غير انتماءهم إلى الأرض التي وُلِدوا فيها، ولا يجمعهم على تشتتهم أي رابط "مُقدّس".
الهاشميون فقط.. يرفضون الانتماء إلى اليمن كهوية أخيرة لا شيء بعدها، لذا يكررون أحاديثًا عن "النسب الشريف" و"السُلالة الطاهرة" لأنها -حسب المزاعم الورقية- تربطهم بنبي الله الكريم صلوات الله عليه، مثّلت الهاشمية بالنسبة إليهم مصدر رزق يعتمد على الإلغاء، إلغاء الآخر والطعن في هويته الحضارية، ومصادرة أراضيه ليشقى هو وينعم أحفاد النبي بجنات عن يمين وشمال. تشكلت الهاشمية أيضًا كعصبية عابرة للقبيلة اليمنية، ورافض عنيد لمصاهرة اليمني الطبيعي، فخلقت انساقًا طبقية، فصّلت اليمنيين إلى نبلاء ومواطنين، وفرضت هرمًا اجتماعيًا يُلغي أصل اليمني كهوية إنسانية ويُلحِقه كتابع ذليل يبحث عن "الجنة" ويتلمّس الكرامات من مخلوق مُصاب بمرض نفسي، ليس له عمل صالح سوى إسم جدّه!
ذلك هو ثمن الزيدية كنظام فصل عنصري، يُسوّق مبادئه كـ"مذهب فقهي"، لكنه في الحقيقة مجرد حراك ثوري قائم على العُقدة النفسية لحادثة "كربلاء"، الخوف من الإبادة التي اعترت عائلة "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في مواجهة حاكم قاسٍ ألهمت الكثير من أحفاده الحقيقيين والآلاف من المنتسبين الحاذقين الذين صاروا شعوبًا داخل شعوبهم، وتنوعوا بمذاهبهم الدينية بين مُطالب بالسيف ومستقوٍ بالغلبة وداعية لطيف وحاكم بكأس ماركس أو قومية العرب.
في اليمن، ثمن دامٍ ومتكرر، فالدجاجة التي تبيض ذهبًا لا يمكن أن يأتيها الموت في برجها المُشيّد، لأجلها تُصنع القبور وتُقام الأضرحة وتدور الألوان المدهشة، ويعلو صوت النواح وتتراشق المآثر وتتلى الصلوات وتتنافس أبخرة العود ويشدو المنشدون، فيتدفق المال إلى الهاشميين. إنه اقتصادهم، معيشتهم، أجرهم المدفوع من وعي الناس الغائب، رشوة الدخول إلى الجنة، مال مجاني من مجتمع مُغفل يمنحهم حياة لا تعرف سوى الترف، وبطائق شخصية وجوازات سفر تُستخدم كهوية "مُنتحلة" لعبور مطارات العالم.
لهذا يقاتلون، ولأجله لن يصبحوا يمنيين، فـ"سبأ" لا تُدفع له النذور، ومعابد المكاربة صارت أطلال ديانة لم تُعد صالحة للعيش إلا في حدود "سياحية" لا تغطي نفقات سُلالة لا تشبع.
هناك شعائر أخرى يتلوها ٢٦ مليون يمني، تبدأ بالوحدانية وتُختم بالصلاة على آل البيت!، البيت الذي يُخرِج اليمنيين من منازلهم ليبقوا في الحقل، يزرعون ويحصدون، و"النسل الشريف" يأكل.
..
وإلى لقاء يتجدد
كاتب وصحافي من اليمن
- المقالات
- حوارات