يعتبر دارسو اللغات، أن من علامات الانفتاح والمرونة، في أي لغة، هي قابليتها للأخذ والإضافة من لغات أخرى. بحيث تتكون الألفاظ والمفردات، في إطار من الاختلاط الحضاري، وزيادة حجم التواصل الثقافي والتاريخي. فتكون الإضافات اللغوية، انعكاساً للإضافات الحضارية، والعكس بالعكس.
ومثلما أخذت الإنجليزية من العربية، في عصور ولّت، كذلك فعلت العربية مع اللغة الفارسية. وكذلك فعلت الفارسية، بإدخالها عدداً وافرا من الألفاظ والكلمات العربية إلى متنها، بل ومن لغات أخرى، أيضاً.
إلا أن إدخال ألفاظ فارسية إلى اللسان العربي، كان مشروطاً بضوابط لسانية مميزة تسهّل إضافة الكلمة ضمن جرس اللغة الناقلة وخصوصيتها، فلهذا عدّلوا في وزن هذه الكلمات "حسب طبيعة نطقهم العربي"، كما يقول الدكتور صلاح الدين المنجد في كتابه: "المفصّل في الألفاظ الفارسية المعرّبة"، فضلا عن التعديل الذي طرأ في إبدال الحروف من الفارسية إلى العربية
ويؤكد الدارسون، أن اللغة العربية لم تأخذ من الفارسية سوى الأسماء، لا الأفعال، إلا أن العربية حوّلت تلك الألفاظ أفعالاً، ضمن معاييرها اللسانية الخاصة. على العكس مما حصل في الفارسية التي أخذت أسماء وأفعالاً وجملا كاملة من اللغة العربية.
وقد وصلت المنفعة التي قدّمتها العربية للفارسية، من خلال تعريب بعض ألفاظها، أن العربية حفظت مفردات فارسية بعدما تم نسيانها في اللغة الأم! تبعاً لما قاله أبو منصور الثعالبي في كتابه "فقه اللغة" الذي أورد فيه ألفاظاً اعتبر فارسيتها "منسيةً" وعربيّتها "محكية مستعملة". ويسرد عشرات المفردات في هذا السياق من مثل: "الحلال، الحرام، الأمير، الخليفة، الوزير، الحاجب، القاضي، صاحب البريد، الطبيعة، العادة، الكساد، الخط، القلم، الحبر، الكتاب".
وأتى الدكتور صلاح الدين المنجّد، بعشرات الكلمات المعرّبة من أصل فارسي، ونقلها في كتابه "المفصل في الألفاظ الفارسية المعرّبة" معتمداً في ذلك على أمّهات العربية، وعلى مختلف مصنفات التأليف اللغوي العربي والتاريخي والديني والبحوث الحديثة ذات الصلة.
شيرين وقابوس والشطرنج
ومن الكلمات المعرّبة، قابوس، فارسيّ وأصله "كاووس". وكان النعمان بن المنذر يكنّى أبا قابوس. وتعني كلمة قابوس "الرجل الجميل الوجه والحسن اللون". وجاء في لسان العرب: "قابوس، اسم عجمي معرّب".
ويأتي اسم "كفتار" الذي لا يزال مستعملاً في سوريا التي كان اسم مفتيها السابق، هو أحمد كفتارو. ويقول المنجّد عن الجاحظ إن "كفتار" هو الضبع، بالفارسية. وينقل عنه أن الفرس إن استقبحوا وجه رجل قالوا: "رُوي كفتار، أي وجه الضبع". لكن المنجد ينقل عن مصدر آخر أن "كفتار" هي من الكردية.
ومن الفارسيات المعرّبات، كلمة ماخور. ومعناها بيت الريبة والفسق.
وكلمة سروال والسراويل، ممّا يُلبَس، وهي فارسية معرّبة تم تأنيثها.
ومن الفارسيات المعرّبات واسعات الشهرة، كلمة "ساذج" وتعني الذي لا نقش فيه.
ويقول المنجّد إن "الشطرنج" من الفارسيات المعرّبات، وينقل أن أصل اللفظ هو "شَتَر رَنْك" وتعني ستة ألوان.
أما الاسم الشهير الذي يطلقه كثير من العرب على بناتهم، شيرين، فهو فارسي معرب، ومعناه "حلو، لذيذ، محبوب". ويقال إن "شيرين" قد يكون اسماً لإحدى الجاريات الفارسيات، بحسب المنجد. ومثله اسم "إيوان"، إيوان كسرى، فهو فارسي معرّب.
طازج وبستان وكرمان وجاموس
وعندما نتذوق الطعام اللذيذ، فيعجبنا فنصفه بأنه "طازج أو طازجة" فنحن نستخدم فارسية معرّبة. وطازج هي من "تازه".
والفستق الحلبي السوري، له مكان في سرد المنجّد، فالفستق فارسية معرّبة.
ولدى زراعتنا الأشجار المثمرة في أرض، يصبح اسمها بستاناً، نكون نستعمل فارسية معرّبة، وبستان بفارسيتها، مركّبة من "بوي، أي رائحة، ومن ستان، أي محل". ويعتبر البستان تعريباً لبوستان.
واسم كرمان، بفتح وكسر الكاف وتسكين الراء، اسم مدينة فارسية، والمنسوب إليها "كرماني". من الفارسيات المعرّبات. وكذلك "إبريق"
و"ترياق" و"صهريج" و"نيزك" و"الياسمين" و"النرد" و"نموذج" و"الفهرس" و"عسكر".
ثم الكلمة الشهيرة: "الجاموس" وهو نوع من البقر، ففارسية معرّبة، أيضاً.
وعندما نقول "الشعر ديوان العرب" فإننا نخصّ عربيّتهم بكلمة غير عربية، لأن كلمة "ديوان" هي الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وهو فارسي معرب.
ملحمة ملوك الفرس يحتوي على 800 كلمة عربية!
وقد قام الأسقف الكلداني ادّى شير، بتأليف كتاب جمع فيه عشرات الألفاظ المعرّبة من أصل فارسي، وهو كتاب "الألفاظ الفارسية المعرّبة"، وذلك عام 1897 م، ثم أعاد جمعها وزاد عليها، كما يوضح هو نفسه في مقدمة كتابه الذي اعتمد عليه المنجّد، أيضا في كتابه.
ويلفت شير، إلى أن العرب تمكّنوا من صناعة أفعال، بالألفاظ التي عرّبوها، ذلك أن غالب ما عرّبوه اقتصر على الاسم، لا الفعل، تبعاً لما قاله الدكتور محمد نور الدين عبد المنعم، في كتابه "اللغة الفارسية".
ويؤكد عبد المنعم، أن اللغة العربية ظلّت في المرتبة الأولى، من الناحية الأدبية، في بلاد فارس، حتى أواخر القرن الثالث الهجري. مؤكداً أن ما سمّاه "النهضة الفارسية" لم تقم معتمدة على اللغة الفارسية، وحدها، بل أخذ الكتّاب والشعراء يأخذون من العربية بعض مفرداتها وعباراتها، فضلا من اقتباسهم من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والأمثال العربية، حيث استخدموا في أشعارهم، بحور الشعر العربي، أيضاً.
وانتهى عبد المنعم إلى أن الشاعر الإيراني، بعد الإسلام، لم يعد يستطيع قول الشعر بلغته الفارسية، ما لم تكن معرفته باللغة العربية، كاملة، وحافظاً لأشعار العرب، أيضاً، على ما أكد في كتابه الصادر في القاهرة عام 1977.
وبسبب قوة تأثير اللغة العربية، بالفارسية، تبعاً لعبد المنعم، فقد أصبح من غير الممكن أن يكتب الكاتب أو ينظم الشاعر شيئاً، بالفارسية، بحيث تكون كتابته خلواً من الألفاظ العربية. مؤكداً أن كتاب "الشاهنامة" الشهير المتعلق بتاريخ الفرس ويعتبر ملحمة، يحتوي على ما يقرب من 800 كلمة عربية.
ويتّصل كلام عبد المنعم، مع قول المستشرق إدوارد براون المنقول في كتابه، عندما أكد أنه لو أراد أحد أن يكتب بالفارسية، دون أن يستخدم ألفاظاً عربية، لتعسّر عليه الأمر، مثلما يتعسّر على من يريد الكتابة بالإنجليزية، دون أن يستعمل مفردات من أصل يوناني أو فرنسي أو لاتيني.
وسبق وتم تأليف كتاب عن تاريخ الدول التي قامت في فارس قبل الإسلام، وتم نشره عام 1880م بعنوان "خسروان نامه"، إلا أنه لم يلق رواجاً يذكر، كونه كان خالياً من الألفاظ العربية. تبعاً لما ورد في كتاب عبد المنعم المشار إليه.
يذكر أن موضوع الألفاظ المعرّبة، عامة، أو الفارسية، خاصة، في اللغة العربية، كان مضمون عدة مصنّفات عربية قديمة، منها "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرّب"، لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 للهجرة، و"المعرّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم" لأبي منصور الجواليقي، موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر (465-540هـ). ويشار إلى أن موضوع الألفاظ الدخيلة على العربية، أو المعرّبة، أو الفارسية، حضر كقسم مستقل، في عدد كبير المصنفات العربية القديمة.
- المقالات
- حوارات