ما الذي يتذكره عراقيون أقاموا باليمن عن شهر رمضان وطقوسه وروحانياته، فضلا عن مثاقفاته؟ وما أوجه التشابه والاختلاف بين طقوس رمضان في العراق واليمن، بما في ذلك الوجبات والمأكولات الشعبية.
أسئلة تفتح بها {الصباح} نافذة على اليمن، كما يستعيدها - من الذاكرة- أدباء وكتاب وأساتذة جامعيون عراقيون احتضنتهم اليمن في تسعينيات القرن المنصرم ومطلع الألفية الجديدة.
طقوس متشابهة
في العام 2009، ودعت الناقدة والأكاديمية وجدان الصائغ، اليمن، بعد عشر سنوات قضتها أستاذة في قسم اللغة العربية- جامعة ذمار (وسط اليمن)، برفقة زوجها الناقد والأكاديمي صبري مسلم حمّادي، وأسرتهما، اتجها بعدها إلى أميركا، حيث تعمل الدكتورة وجدان حاليا أستاذة في قسم الدراسات الشرق أوسطية- جامعة ميشيغان.
تتذكر الصائغ طقس رمضان الخاص في اليمن (ذمار تحديدا)، حيث المدينة الجميلة لا تستيقظ إلا بعد الفطور، إذ تكون شوارعها خالية خلال وقت النهار ولكنها تستيقظ بكامل ألقها بعد الفطور، وكأن الحياة تدب فيها، فتنفتح أبواب المحال التجارية والمكتبات وخصوصا مكتبة (الغربي) للروائي الغربي عمران، هذه المكتبة التي تحوى ما لذّ وطاب من الكتب والاصدارات الجديدة كما تضوع عطور البخور اليماني في أزقة المدينة الصغيرة.
وتجد الصائغ بأن الطقوس اليمانية والعراقية متشابهة، بالبدء بالتمر وشوربة العدس الذي يرتفع سعرهما كثيرا في رمضان، لكن طبيعة الوجبات مختلفة، فثمة الأطباق التي لم يسمع بها العراقيون مثل الفحسة والسلتة والعصيد وأما الحلويات فثمة السبايا وبنت الصحن وقهوة قشر القهوة عدا الشاي اليمني الذي له طعم خاص لا علاقة له بالشاي العراقي المهيل.
تقول وجدان لـ "الصباح": ما زلت أذكر وجبات الإفطار التي كانت تجمعنا بالأدباء مثل المقالح والشاعر محمد الشرفي وأما الشاعران عباس الديلمي والشاعر محمد عبد السلام منصور فهما ذماريّان وطالما استضافونا في رمضان في ذمار وفي صنعاء... موائد الطعام اليمانية عامرة كنفوس أصحابها.
وتعبر الصائغ عن اشتياقها لتلك الأماسي وتلك الأوقات التي "انفرطت من قلب الوقت" على حد تعبيرها: ما زال ابني قيس يتغنى باليمانيين في قصائده وما زالت ابنتي ليلك وهي من مواليد اليمن ترنو بعينها إلى بلدها ذاك ولا زالت ابنتي شمس تلح عليّ بزيارة اليمن... اليمن السعيد الأثير إلى القلب وإلى الروح.
طرفة "اللحوح" وسوق السمك
ومن مهجره الأميركي، يتذكر الناقد والأكاديمي صبري مسلم حمّادي، اليمن وأمسياتها الرمضانية: اليمن بلد متدين، الناس هناك تحس برقّتهم وحكمتهم، كما وصفهم النبيّ الكريم (ص)، ولذلك فإن الترحيب برمضان تحسه من خلال الأدعية والتهاني، تحس أجواء خاصة تماما. وثمة ظواهر تحسّ بها، أولها مثالا، خلوّ الشوارع من الناس في النهار وازدحامهم في الليل. الدوام تماما نص دوام أو ربع دوام للطلبة والموظفين والأساتذة.
وقال حمّادي لـ"الصباح"، إنه يعتزّ بفترة وجوده في اليمن، مع الدكتورة وجدان الصائغ، زوجته، وأسرتهما، مؤكدا أن الكثير من طلبتهم وهم الآن في مواقع إدارة جامعة ذمار عمداء ورؤساء أقسام، يشيدون بما أنجزوه هناك من باب الوفاء.
ووصف حمّادي فترة إقامته باليمن بالفترة الخصبة والثرية على صعيد المثاقفة والخبرة الأكاديمية أيضا.
وامتدت إقامة حمّادي في اليمن من العام 1999 إلى العام 2009، حيث عمل أستاذا للنقد الأدبي الحديث والعميد الأسبق لكلية الآداب في جامعة ذمار، وكان عمل قبلها في جامعة صنعاء أستاذا زائرا لفترة قصيرة، قبل أن تنتقل الأسرة للإقامة في أميركا، حيث يعمل -الدكتور صبري- حاليا أستاذا للغة العربية في قسم اللغات الأجنبية- كلية واشتناو الجامعة. وقبل ذلك كان بروفيسورا في جامعة الموصل، حيث درّس الأدب الحديث قبل انتقاله للجامعات اليمنية.
وعن الإفطار والمأكولات الرمضانية في اليمن، يفيد حمّادي بأنها كانت استثنائيّة، متحدثا عن أنواع الخبز اليمني اللذيذ سواء خبز التنور أو (اللحوح) المرقوق.
ويتذكر في سياق حديثه، من باب الطرفة، أنه حينما كان عميدا لكلية الآداب وأحدهم كان يلحّ عليه في شيء يطلبه.، يقول حمّادي لـ "الصباح": كنت مع رئيس الجامعة، قلت له "هذا الرجل يلحُّ كثيرا؛ رجل لحوح"، فقال لي: اللحوح هو نوع من الخبز. ولقد فاتني ذلك في أول الأمر.
وفي سوق السمك، يختار حمّادي سمكة تعجبه ثم يشويها أحدهم، وعلى الرغم من وجود عشرين سمكة على طريقة بسيطة على نوع من التنك وترى سمكتك أمامك، إلا أن الشخص الذي يشوي، "بذكائه يميز كل سمكة وصاحبها".
ومن الأكلات التي يتذكرها: الشفوت، الحلبة، السمبوسة، السحاوق، العصيدة، مشروب القديد، المهلبية والمحلبية، المندي، الحنيذ، و"أسلوب إعداد هذه الأنواع الكثيرة والطبق الذي توضع فيه نتذكره تماما".
ويستعيد حمّادي ذكريات مجالس القات التي قد تمتد وصولا إلى فترة السحور وما قبل أذان الفجر، والحوار الثقافي الذي يرافقها عادةً، كما يستعيد جولاته في سوق "باب اليمن" الذي يزدحم بالناس في ليل رمضان، ويزدحم بكل شيء يخطر على البال للتسوق وللأكل، متمنيا أن يعود السلام والطمأنينة لليمن السعيد وأهله، "دعائي وتمنياتي لهذا البلد أن يكون سعيدا كما وُصِف".
"جيت أمسّي من رداع"
الشاعر والكاتب المسرحي، عبد الرزاق الربيعي، يتذكر من ناحيته، الإرباك الذي يطرأ على ساعات الدوام الرسمي في اليمن حيث تبرمج الحكومة ساعات الدوام بشكل استثنائيّ ويبدأ متأخرا عما هو معتاد. يقول الربيعي، إنه عمل مدرّسا، وكثيرا ما كان يواجه مشكلة عندما يخرج بوقت مبكّر، متوجّها إلى مكان عمله البعيد عن محلّ السكن، فيداهمه شعور بالوحشة لخلوّ الشوارع من المارّة، والحافلات، وتكون المحلّات التجارية والأسواق مغلقة، وهذا يفتح المجال واسعا للحيوانات السائبة، فتمارس حرّيتها في الحركة، خلال ساعات النهار الأولى، وكثيرا ما واجه هجومات متكرّرة من كلاب شرسة.
بين عامي 1994 و1998، أقام الربيعي في اليمن، حيث عمل في سلك التعليم ومراسلا للزمان اللندنية والاتحاد الإماراتية والفينيق الأردنية في صنعاء، قبل أن يستقر به المقام في سلطنة عُمان.
ويجد الربيعي نقاط تشابه كثيرة بين العراق واليمن، في الطقوس والمظاهر الرمضانية: لاتوجد اختلافات سوى اختلافات بسيطة تمليها العادات الاجتماعية السائدة، فمجالس (القات) في اليمن تحيل الليل إلى نهار، أما في العراق فتنتشر لعبة( المحيبس) التي يشارك بها الرجال في المقاهي وسط أجواء لطيفة، ترافقها غناء (المربعات البغدادية)...
ويضيف الربيعي لـ "الصباح": الموائد متشابهة، مع اضافات بسيطة، مائدة الإفطار اليمنية مليئة بالسمبوسة والحلويات مثل بنت الصحن، والقهوة اليمنية ولقمة القاضي، وتتشابه مع المائدة العراقية التي تشتهر بحلويات الزلابية والبقلاوة وأن التمر عند الإفطار يكون حاضرا، حسب السنّة النبوية، إلى جانب اللبن. ولا تخلو مائدة الإفطار اليمنية من الأطعمة التقليدية: الشفوت (خبز اللحوح واللبن) والسحاوق (صلصة من الفلفل الحار والثوم وبهارات مختلفة) والأرز واللحم والسلتة والفتة وشراب الزبيب.
ولأطفال اليمن احتفالاتهم الخاصة في رمضان مثل الأطفال في العراق، يتابع الربيعي حديثه، بما يسمى بـ "الماجينا" تبدأ في الأسبوع الثاني من رمضان وتستمر حتى نهايته، فيسيرون في الشوارع ويطرقون الأبواب، ويرددون: (ماجينا ياماجينا/ حلي الكيس وانطينا). ولأطفال اليمن طقوس جميلة أبرزها أنهم يخرجون حاملين فطورهم في صحون صغيرة ليفطروا عند أبواب المساجد بشكل جماعي، ثم ينطلقون جماعات ليؤدوا التماسي الرمضانية، فيستقبلون رمضان بها: (يا رمضان دندل حبالك/ بيت أبي صالح قبالك).
والتماسي الرمضانيّة هي أناشيد جماعية يؤديها الأطفال، تشبه (القرنقشوه) في الخليج، ويقفون عندها مردّدين: (يامسا أسعد الله المسا/ يامسا جدّد الله الكسا/ يامسا جيت أمسي عندكم/ يامسا زوجونا بنتكم)، فيعطونهم الزبيب والنقود، فيشكرونهم، أما إذا لم يحصلوا على بغيتهم، فيذمّون أهل البيت: (جيت أمسّي من رداع/ راجمونا بالقراع/ جيت أمسي من ذمار/ لاحقونا بالحجار). ويواصلون السير إلى بيوت أخرى، وكما في الدول العربية الأخرى تقرع الطبول عند السحور.
السمبوسة وقهوة قشر البن
بين عامي 2003 و2014، عمل الشاعر والأستاذ الجامعيّ رعد السيفي أستاذا للأدب العربي الحديث، والنقد المعاصر، في كليتي الآداب والتربية في جامعة إب. ومنذ 2015 يقيم في مدينة هيوستن الأميركية.
لرمضان في اليمن عبق خاص ملتصق بذاكرة رعد السيفي، حيث تخرج صباحا، فتجد المدينة هادئة، ساكنة على غير عادتها، بينما يبقى الضجيج حتى بزوغ الفجر. الصلوات والأدعية تصل إليك حيث تكون، ولست في حاجة لأن تقصد مسجدا هنا أو هناك! وكثيرا ما كانت هذه الأصوات تتداخل مع بعضها في الوقت نفسه. حتى الأطفال لهم طقوسهم الخاصة، فتجدهم يصحبون سجادات الصلاة معهم رفقة كتبهم إذ يؤدون صلواتهم في مدارسهم مجتمعين في جو روحاني خالص.
ومستعيدا لحظة وصوله مدينة إب قادما من صنعاء، وقد صادف وصوله إليها حلول شهر رمضان، يتابع السيفي حديثه لـ: "الصباح"، قائلا إنه رأى، ولأول مرة، كيف تنقلب حياة الناس، يستبدلون الليل بالنهار في النشاط والحركة والتبضع والزيارات وما شاكل ذلك، "وهذا الأمر لم نألفه من قبل في العراق، باستثناء تقليص ساعات الدوام في دوائر الدولة بحدود ساعتين فقط".
كان الليل عالما خاصا، نلتقي الأصدقاء به، ونقصد بعضهم في جلسات سمر طويلة، وما أذكره موسم المركز الثقافي في إب، وبعض أنشطة الهيئة العامة للكتاب، ودور الصديق ردمان الأديب، وقد توزعت تلك الأنشطة مجالات الوعظ والتأريخ والشعر والثقافة عموما.
أما نشاط الجامعة، فيكون في أغلب أيام الشهر قليلا، وهذا ما لم يألفه السيفي في العراق، لكن "ذلك يعود إلى ذهاب أغلب طلبة الجامعة إلى عزلهم وقراهم ليشاركوا أسرهم أيام الشهر الفضيل".
وهنالك طقوس الاعتكاف في ليالي رمضان، فبعد منتصف الشهر، وتحديدا في العشر الأواخر يبدأ طقس روحاني، هو طقس الإعتكاف في المساجد والتفرغ كليا للعبادة. وفي هذا الصدد، يكشف السيفي أن زملاء له من الأساتذة العراقيين مارسوا هذا الطقس رفقة الإخوة اليمنيين.
ومن المأكولات الرمضانية في اليمن، يتذكر السيفي السمبوسة وبعض المقالي، التي تنتشر في الساحات في رمضان فقط، مبينا أنه تعرف خلال زياراته لبعض الأصدقاء إلى القهوة اليمنية بالقرفة، وقهوة قشر البن، وكيك الشاي، ومن الحلو "الهريسة"، والتي لا تشبه الهريسة التي يعرفها العراقيون! اضافة إلى (بنت الصحن) الطافحة بالعسل اليماني اللذيذ، "وحين سكنت معنا في العمارة بعض العوائل اليمنية بدأنا نتبادل معها الأطباق، كما يحصل في العراق".
سيمفونية المطر
وثمة الناقد والأكاديمي سعد محمد التميمي، الذي أقام في اليمن بين عامي 1995 و2005، تنقل فيها بين صنعاء وتعز وإب (والأخيرة أقام فيها ثماني سنوات)، وزار محافظات ومناطق عدة. وحاليا يدرِّس التميمي البلاغة والنقد وتحليل الخطاب في الجامعة المستنصرية ببغداد حيث يرأس منصة الإبداع الأدبي.
يقول التميمي إن الذاكرة ما زالت تعج بالذكريات عن اليمن السعيد، فبعد (الفطور) تتسارع حركة الحياة بحيوية كبيرة وتصدح المساجد بالذكر والتواشيح وتنشط المنتديات في إقامة الأنشطة الثقافية بين ندوات وقراءات شعرية وتواشيح دينية وغيرها.
ويذكر التميمي أنه في عام 1997 كانت له مشاركة في البرنامج الثقافي لشهر رمضان في اتحاد الأدباء في صنعاء مع الصديقين المسرحي صالح حسن فارس والفنان محمد الساعي، "قدمنا فيها مسرحية شعرية غنائية بعنوان سيمفونية المطر بمناسبة ذكرى وفاة السياب، أعددت نصوصها
ولحّنها وغنّاها محمد الساعي ومثّلها على مسرح المقيل الفنان صالح حسن".
فضلا عن الأمسيات الثقافية التي كانت تقام في أروقة جامعة إب مساء، وقد كان يشارك في الأنشطة الثقافية الرمضانية عدد كبير من الأصدقاء منهم د.حاتم الصكر ود.علي جعفر العلاق ود.علي حداد وعبد الرزاق الربيعي وفضل خلف، ولا ننسى مقيل الدكتور عبد العزيز المقالح الذي كانت له أمسيات خاصة في رمضان. وجنبا إلى جنب مع الأنشطة الثقافية كانت تقام في المساجد والساحات العامة جلسات للذكر والموشحات بالأنغام والإيقاعات اليمنية. ومن المأكولات الرمصانية يتذكر التميمي في حديثه لـ: "الصباح"، العصيد وبنت الصحن والفحسة والسلتة والمندي الذي أصبح شائعا الآن في العراق.
ويجد التميمي مشتركات، بين العراق واليمن، في الأكلات والمشروبات مثل السمبوسة والعصائر والزبيب وقمر الدين وغيرها.
وما يميز اليمن أن موائد الإفطار مفروشة في الطرقات رغم الظروف المعيشية الصعبة فالصائم لا يقلق بشأن الفطور، فضلا عن عادة جميلة لاحظتها، فغالبا ما يتناول الناس هناك الإفطار الجماعي. إفطار الصائم عندهم سُنّة.
عراقيّ في صنعاء القديمة
وبدوره، يستدرك الشاعر عباس السلامي، بالقول إن رمضان في اليمن لا يختلف كثيرا عن رمضان في سائر البلدان العربية، خاصة في طقوس استقباله كشهر كريم فرض الله علينا صيامه، كذلك في تحضير المستلزمات والمؤونة التي تمكّن الصائم من أداء فريضة الصيام على أتم وجه.
وينوه السلامي، في سياق حديثه لـ: "الصباح"، بكرم اليمنيين: إنهم كرماء بالفطرة ولا يزيدهم رمضان إلا كرما وتكافلا فيما بينهم، ولا فرق في هذا التكافل عندهم ما بين اليمني والمقيم أيا كانت جنسيته.
بين عامي 2000 و2005، عمل السلامي مدرسا في محافظتي شبوه (جنوب شرق)، وصعدة (بأقصى شمال البلاد)، وكانت إدارات المدارس في القرى أو المدن التي يتواجد فيها المدرسون العرب، تقسّم شهر رمضان إلى نصفين، النصف الأول للتدريس، وتسمح في النصف الثاني للمدرسين بالمغادرة أو التفرغ للعبادة لما تبقى منه، لذا كان السلاميّ يغادر القرية ويعود إلى صنعاء ليلتقي ببعض زملائه الذين يؤثرون التواجد فيها لما تبقى من رمضان.
ومما يتذكره السلامي "من رمضانه الصنعائي": في النهار يخلد الناس للراحة والنوم، وفي الليل كلّ يذهب لوجهته إما لحلقات الذكر في المساجد، أو للتجوال والتبضع، فيما كنت أقسم يومي ما بين مكتبة المركز الثقافي والمسجد الكبير الذي تشدني الصلاة فيه مشاهدة المعمرين من الرجال وهم يصلّون ويقرؤون نسخا كبيرة الحجم من القرآن.
سكن السلامي لأكثر من عامين في صنعاء القديمة وبالتحديد في حارة المفتون: "كان الجيران يغدقون عليّ بكرمهم - ليس في رمضان فقط ـ بل في كل مرة أتواجد فيها في سكني، وفي أحاين كثيرة كنت اعتذر وبخجل من قبول ما يرسلونه لي من طعام، معللا رفضي بعدم تمكني من رد الجميل فأنا أعيش وحيدا ولا قدرة لي على مقابلة كرمهم بالمثل.
ويقتطف السلامي بعض ذكرياته اليمنية: ذات يوم قال لي ضرغام أحد جيراني الكرماء بعد أن رفضت أن آخذ منه "الصينية العامرة بالطعام" التي حملها لي بكل محبة، أنّ أمه تريد أن تتحدث معي، وحينما وصلنا إلى عتبة دارهم، فإذا بي أشاهد أمه محمولة على الكرسي النقّال وهي تطلب مني بحنوّ الأم ومحبتها وتقسم عليّ أن لا أتردد في قبول ما ترسله لي. وددت أن أنحني لحظتها لأقبّل قدميها، ولم أجد ما أكفكف به دمعي الذي راح ينهمر مني سوى الاعتذار منها لأعود مسرعا إلى سكني وأنا أجهش بالبكاء.
ليل عدن وقلادة الفُلّ
في كتابه "باتجاه الجنوب شمالا"، يحيلنا الشاعر والمترجم عبد الكريم كاصد، (المقيم في المملكة المتحدة منذ سنوات والذي أقام قبلها في عدن باليمن)، إلى مساءات عدن الجميلة التي كان لها أثرها في نفسه: عطورها التائهة عند البحر، شبابيكها المرشوشة بالورد، روائحها الفائحة بأطعمة الباعة الجوالين، وأغانيها التي بدت لي كلماتها في سباق محموم مع ألحانها. وبدت هذه المساءات، بعد فترةٍ، أجمل عند وصول حبيبتي الراحلة التي اقترنت بها هناك وقد رافقني شاهدان: ابن عمها الفنان أبو شمس المنفيّ معنا، وصديقان آخران هما: الشاعر العراقي وصديق العمر: مهدي محمد علي والصديق فلاح الخفاجي، إلى مكتب شيخ ليس هناك أخف من روحه ومرحه ما أشاع جوّا من البهجة شاركتنا فيه الطبيعة التي بدت ذلك المساء ندية وهي تستقبلنا بنسائمها الخفيفة وقلائد الفلّ يحملها البائعون الأطفال.
ومستعيدا ليالي رمضان في عدن، يتابع كاصد: لم تشفّ هذه الأمسيات مثلما شفّت في رمضان حيث الناس يسهرون حتى ساعة متأخرة من الليل. ولا أنسى أبدا محلات بيع الأقمشة بألوانها ورقّتها ولمعانها في الضوء الذي استحال نهارا وسط زحام الناس وانبهار زوجتي المسحورة بالأقمشة المجلوبة من الهند.. كأننا رحالة يهبطون جزرا غريبة نائية وقد زيّنتْ عنقَ حبيبتي قلادةُ الفل: (بعد سنة فقط اختفت الأمسيات/ كأنها لم تكن/ أين اختفت؟/ هل استحالت ذكرى حقّا؟/ في رمضان تفتح الشوارع عيونها في الليل/ وتنام في النهار/ بعيدة عن الناس/ يا لبهجة العابر في الليل/ بين فوانيس الباعة/ وظلال المارين).
أما بالنسبة للمأكولات فهي شيء آخر، لأن كاصد ليس في العراق ولا في اليمن منذ سنين عديدة، كما يقول.
- المقالات
- حوارات